... إنهم «كتائب القلوب البيض». لم يكن غبار «بيروتشيما» انقشع بعد حين كفكفوا دموعهم وهبّوا لنجدة بيروت «المذبوحة» التي سُفك دمُها في ذاك الثلاثاء المشؤوم (4 أغسطس) الذي بدت معه «درّة الشرق» وكأن الزمن دار عليها مجدداً بفاجعةٍ جمعتْ تحت ركامِها لعنتيْ الزلازل التي ابتلعتْها مرات والحروب التي دمرّتْها على دفعات.
من كل المناطق أتوا ومن كل الأعمار والجمعيات والمؤسسات، جماعات وأفراداً حملوا حبهم وجهدهم وحرقة قلوبهم وعملوا ليل نهار ليمسحوا عن وجه بيروت علامات الحزن وينتشلوها من تحت الردم ويبلْسموا جراح أبنائها الذين دَهَمهم إعصار الدم والدمار وحوّل آلاف المنازل رماداً أو هياكل مترنحّة أو مساحاتٍ مشلّعة... بلا روح.
حَمَلوا المكانس والمعاول والرفوش ونزلوا الى شوارع بيروت المنكوبة... لم ينتظروا دعوة من أحد ولم ينتظموا في صفوف أو مجموعات، بل هي روح النخوة فيهم أبت إلا أن يهبّوا ابتداءً من صباح اليوم التالي للانفجار «الهيروشيمي» لمدّ يد العون إلى المتضرّرين من أهل العاصمة والمتألّمين من إخوة لهم في الوطن، فصاروا نقطةَ الضوء في قلب «الأسْود الكبير» الذي حاكَ لـ«لؤلؤة المتوسط» شالاً من أشلاء ونقطةَ جذبٍ لعدسات الإعلام المحلي والعالمي الذي أدهشه مشهدُ النور والنار في مدينة تُقتَلُ... ولا تموت.
فوق أكداس الركام والحطام والزجاج العابقة برائحة الموت والدمار يقف شبان وشاباتٌ بعزم الشباب وروح التحدّي ليعلنوا أن إرادة الحياة أقوى وأن بيروت التي بكت دماً ليست وحيدة.
في اليوم الأول كانوا أفراداً، نزلوا من دون أي تخطيط، اشتروا المكانس ومعدّات إزالة الركام من جيبهم الخاص. لم يعرفوا مِن أين يبدأون كان همّهم أن يقفوا إلى جانب أخوة لهم.
جهودُهم نقطةٌ في بحرٍ، لكنها من القلب تُحْدِث فرقاً ولو طفيفاً. في الأيام التالية بدأت الصفوف تنتظم والعمل يخضع لخطط واضحة. تدخّلت الجمعيات الأهلية والكشفية والمنظمات المدنية وجنّدت أفرادَها للعمل في الشوارع المنكوبة وإغاثة الناس فيها. لكن الكثير من الأفراد المندفعين غير التابعين لأي تنظيم استمروا بالتدفّق إلى الشوارع المتضررة، وما أكثرها، ليعملوا بصمتٍ وإيمان وفق اقتناعات خاصة لا تنتظر توجيهاً من أحد.
من كل المناطق أتوا من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ومن البقاع والجبال اندفعوا لتلبية نداء عاصمتهم متحدّين كل المخاطر وحتى «كورونا» الذي يسجّل أرقاماً قياسية في لبنان.
في شارع الجميزة حيث جالت «الراي» فرق من الشبان والشابات يرتدون قمصاناً موحّدة ويختارون قطاعاً محدداً وينطلقون للعمل فيه... لا يتطفّلون على الناس بالقوة، بتهذيب يسألون: هل يمكننا المساعدة؟ وغالباً ما يأتيهم الجواب بالإيجاب.
فيحدّدون مع أصحاب الأمر الأولويات ويبدأون بالعمل. الكمامات على وجوههم رغم الحرّ والتعب وضيق النفس، ينزعونها أحياناً ليرتاحوا ويرتشفوا بعض الماء ثم يعودون إليها وإلى المهمة التي تطوّعوا لأجلها.
لم نرَهم يدخلون بيتاً من دون استئذان أصحابه أو مَن ينوب عنهم مِن سكان المبنى وبوجودهم. وقد أخبرتنا راشيل، وهي المسؤولة عن المجموعة، أن دخول البيوت ممنوع إلا بوجود أصحابها.
هنا يعملون أولاً على إزالة الركام والأغراض المهشَّمة من الأرض وتجميعها في زاوية خاصة، وبعدها يبدأ العمل على إعادة شيء من النظام إلى البيت حتى إذا استعاد جزءاً مما كان عليه يُجْرون مَسْحاً أخيراً للتأكد من أن المنزل صار شبه قابل لانطلاق أشغال الترميم فيه.
في البنايات الصامدة التي لم تنهَر أجزاء منها، يتولى متطوعون تنظيف المدخل والدرج والمساحات الخارجية وإزالة الركام منها حتى يتمكن سكانُها من الوصول إلى منازلهم بسهولة.
في الشوارع تنتشر أكشاش للجمعيات المختلفة توزّع الماء على المتطوّعين وبعض السندويشات. وثمة أكشاش لجمعيات متخصصة مثل «كاريتاس» توزّع الأدوية على الناس الذين فقدوا منازلهم ومعها أدويتهم بعد التأكد من حالاتهم من ممرضين مختصين، وأخرى تعدّ وجبات ساخنة لإيصالها إلى سكان المنطقة الذين لا شك غير قادرين على إعداد طعامهم أو مجرّد التفكير بالأمر.
الشوارع كخلية نحل رغم كآبة منظرها... شبابٌ ومعهم كهول وحتى كبار في السن يكنسون الطرق ويزيلون بالرفوش الركامَ ويكومونه إلى جانب الطريق حتى يأتي عمال بلدية بيروت لإزالته بشاحناتهم المختصة.
أهالي منطقة مار مخايل يشْكون أنهم لم يروا أحداً من المسؤولين بينهم ولم يلمسوا حتى اليوم أي اهتمامٍ بحالهم سوى من الجمعيات الخيرية والشباب المتطوعين.
لكن بلدية بيروت تعمل من دون كلل وتقوم بالتنسيق بين فرق المتطوّعين لتنظيم أعمال إزالة الردم وترسل فرقاً من المهندسين المختصين لتقويم حال الأبنية المتصدّعة ولا سيما التراثية.
وسط هذا المشهد الإنساني الرائع تبرز بعض اللطخات السود. فالمكانس هنا يبيعها البعض بسعر خيالي يلامس 90 ألف ليرة لبنانية للمكنسة الواحدة في حين أن سعرها «الحقيقي» لا يتخطى 10 آلاف... كما أن بعض عمليات السرقة تحدث في بيوت أو متاجر من أشخاص يدّعون أنهم متطوعون.
لكن السلطات سرعان ما تحركت وبدأت بتسطير محاضر ضبط لكل الذين يتاجرون بالمكانس ويستغلّون حاجة الناس في هذا الظرف العصيب، كما شدّدت الرقابة على الموجودين في الشوارع وطلبت من الأهالي عدم السماح إلا للجمعيات المعروفة بدخول بيوتهم.
كثر من المشاهير تَحرّكوا ليواكبوا حراك الناس في الشوارع... السيدة ماجدة الرومي «ثائرة بيروت» التي غنّت لها «قومي من تحت الردم» (من رائعة نزار قباني «يا ست الدنيا») نزلت بين المتطوّعين تتفقد حال العاصمة بعد نكبتها ولا سيما شارع ما مخايل...
بدت متأثرة جداً لا بما رأتْه من أضرار فحسب بل بمشهد الشبان والشابات الذين يعملون بأيديهم العارية ليساهموا في قيامة بيروت من تحت الردم. توجّهت إليهم قائلة: «أنتم تكبّرون القلب، لكم أنحني تحية إكبار ومحبة».
ومنهم اعتذرت لأن جيلها لم يستطع أن يمنح جيل الشباب وطنا حراً سيداً مستقلاً. ولهم أكدت أن بيروت التي قامت من تحت الأنقاض سبع مرات كما يروي التاريخ ستقوم من جديد بجهودهم وتقف على رجليها بفضلهم. أما للمدينة الحبيبة فقالتْ «قومي من تحت الردم كزهرة لوز في نيسان. قومي إن الثورة تولد من رحم الأحزان».
السيدة ماجدة الرومي التي قالت إنها كانت قبل بضعة أيام فقدت الأمل، عادت لتجده «مع مشهد الشباب الرائعين بنخوتهم وحماسهم ووجدت الرجاء كله فيهم».
جاءت لتحيي رفوشهم ومكانسهم وتستمدّ منهم الأمل بثورة حقيقية وغد أفضل، ولم تتوانَ عن حمْل المكنسة وإزالة بعض الركام معلنة «أنتم لبنان الأمل والكرامة، ومكنسة الشباب اللبناني أهم من مليون مدفع ودبابة».
من جهة أخرى، تجمّع عدد من الوجوه الإعلامية والفنية المعروفة وانضووا تحت لواء جمعية Lebanon Tomorrow ليعملوا بدورهم على مساعدة العاصمة وأهلها.
«الراي» سألت الإعلامية جيسيكا عازار، مؤسِّسة الجمعية عن تحركاتهم العملية في الشارع وما يقدّمونه في الوقت الراهن لبيروت المنكوبة، فأجابت: «بدأنا عملنا مع وصول جائحة كورونا إلى لبنان واشتداد الأزمة المالية فيه، فقد لاحظنا، الصديق طارق كرم وأنا، الضيق الذي تعانيه عائلات الأشرفية وبيروت نتيجة الأزمتين فقرّرنا إنشاء حركة تعنى بمساعدة هذه العائلات. وسرعان ما انضمّت إلينا وجوه معروفة مثل عادل كرم، غي مانوكيان، جو معلوف، ريما نجيم، طوني بارود، سارة ابي كنعان، هيلدا خليفة وغيرهم، وتولى كل منهم الاهتمام ببضع عائلات في منطقته».
وأضافت عازار: «بعد الانفجار الكبير، انصبّت جهودنا على مساعدة أهلنا في بيروت. بدأنا حملةً لجمع التبرعات منذ اللحظة الأولى وتفاجأنا بمدى التجاوب المذهل معنا من لبنان والعالم العربي ودول العالم ومن الجاليات اللبنانية المنتشرة فيه. اتخذنا هدفاً باستخدام الأموال المجموعة للمساعدة في تركيب الزجاج في البيوت المتضرّرة. هذه أولويتنا اليوم لأنها أولوية الناس، وبالمبالغ المتبقية نقوم بإعداد الوجبات المجانية للعائلات في المنطقة للتخفيف قليلاً من تعبهم. وقد تجاوب معنا كل العاملين في مجال تركيب الزجاج والألمنيوم وبدأنا العمل، وقد التفّ حولنا الكثيرون يعرضون المساعدة، كلٌّ في مجاله».
المشاهدات في وسط العاصمة وأحيائها كثيرة، ونماذج المتطوعين متنوّعة بتنوع القلوب التي تخفق لبيروت. في شارع «الصيفي»، رجل أربعيني يعمل وحيداً، يكنس الشارع وحده وكأنه يودّ أن يفرغ البحر بصدفة. لا يهمّه كم ينجز من مهمته فهو «ملتزم أخلاقياً ووطنياً أن أنظّف وطني». هاجر لسنوات طوال ثم عاد إلى بلده، ليشارك شعب لبنان ثورته وها هو اليوم يشارك بالتغييرعلى طريقته، بمكنسته وعرق جبينه.
في شارع «الرميل» تَداعى تلاميذ وخريجو مدرسة عريقة تقبع هناك منذ ما يقارب 70 عاماً إلى لملمة جروح مرتع طفولتهم، ونزلوا جميعهم للمّ أشلائها وإعادة بث الحياة فيها بسواعدهم وقلوبهم. أزالوا الردم، كنسوا الزجاج، أزالوا حطام النوافذ الخشبية وبقاياها وأعادوها هيكلاً للعِلم والتربية.
في «ساحة الشهداء»، مجموعة من العاملات الأجنبيات لم يحتملن مشهد بيروت الدامي فجئن إليها في يوم عطلتهنّ ليساعدنها «لتبدو أفضل» كما قالت إحداهن. وأضافت أخرى «هذا بلدنا الثاني نأكل مع أهله ونعيش وسطهم فكيف نستطيع أن نرى هذا المشهد ولا نضع أيدينا بيد اللبنانيين لإزالته؟»
عبر دعوة على «فيسبوك»، تقول عاملة أخرى «تجمّعنا، جلبنا مكانسنا والقفازات وبدأنا العمل»، وبلغة عربية مكسّرة تقول «بدنا لبنان يرجع رحلو، نحنا كتير منحبو، إذا صار شي للناس هون كأنه صار لإلنا».
تَشاركوا الخبز والملح مع أهله وأكلوا من خيراته، وها هم اليوم رغم ما يعانونه من تداعيات أزمته الاقتصادية ورغم نوم بعضهنّ في الشوارع، يردّون له الجميل. أمنية واحدة تتردد بينهم: «انشالله أهل لبنان يبعدوا الأذى والشر عنه».
أما المشهد الأكثر إيلاماً فهو لرجلٍ مُقْعَد نزل على كرسيه المتحرك وحمل مكنسته ليشارك ناس بيروت آلامهم ويوحّدها مع ألمه. لم تُثْنه حركته المقيّدة أو يؤخّره وجع، أراد بما يستطيعه أن يؤدي واجبه نحو عاصمته وأهلها فكانت له تحية إكبار من كل الناس ووسائل الإعلام.
الجمعيات الأهلية مستنفرة لتقدّم كل العون إلى المنكوبين الذين بات نحو 300 ألف منهم في العراء لا يملكون شيئاً، لا مأوى، لا مأكل ولا ملبس. كثر هي المؤسسات السياحية والاجتماعية التي قدّمت للذين فقدوا بيوتهم بعد «بيروتشيما» مساكن بديلة بعيدة عن العاصمة تؤويهم ريثما يتمّ ترميم منازلهم. وكثيرة هي الجمعيات الأهلية التي ضاعفت جهودها لتؤمن المأكل والملبس للعائلات المشردة وحتى الألعاب والكتب للأطفال. وقد انطلقت حملات واسعة على مواقع التواصل من لبنان والخارج تدعو الناس إلى التبرّع ليس بالمال فقط بل بكل ما يمكن أن يساهم في إعادة مظاهر الحياة اللائقة الى الأسر المنكوبة ولا سيما المحتاجة.
حملة «دفى» التي أطلقتْها النائبة المستقيلة من البرلمان بولا يعقوبيان منذ العام 2013 تعمل بكل طاقة متطوعيها الكثر لتأمين أماكن لإيواء مَن تضررت منازلهم في الانفجار، وتوفير أشرطة لاصقة و«نايلون» كبديل من زجاج النوافذ الذي تحطّم. إلا أن الحاجة أكبر بكثير من كل ما تم تأمينه، فالمأساة التي ضربت بيروت ولدّت كمّاً لا يوصف من المآسي والأضرار يصعب على أعتى البلدان وأعظمها تَحَمُّل تداعياتها، فكيف ببلد صغيرمثل لبنان يعاني ما يعانيه من أزمات؟
لكن لبنان تَضامَنَ مع نفسه ومع عاصمته المدمّرة وأهلَها المنكوبين... أما بيروت الجريحة فلم تترك يدَ أبنائها وبقي قلْبُها عليهم وحتى على مَن... «أهداها مكان الوردة سكينا».