... كأنه زلزالٌ وأكبر ضرب بيروت ومحيطها حتى أبعد مدى، عصر أمس حين دوّى انفجارٌ هائل تَطايَرَتْ أضرارُه انطلاقاً من المرفأ وصولاً إلى مناطق عدة، وسط مشهد «دمار شامل» في موقع الحَدَث المرعب ومداره الأوسع، في حين أمر أمير قطر الشيخ تميم بن حمد بن خليفة آل ثاني بإرسال مستشفيات ميدانية، على إثر اتصال أجراه بالرئيس ميشال عون.
وبدت العاصمة اللبنانية منكوبةً بعيد الانفجار الذي اعتقد كثيرون للوهلة الأولى أنه ناجم عن زلزال، أو ما قد يطلق عليه «بيروتشيما»، في ما يشبه الدمار الذي لحق بمدينة هيروشيما اليابانية، التي تعرضت لقنبلة نووية أميركية خلال الحرب العالمية الثانية، قبل أن يبدأ الدخان اللاهب المتصاعد من مرفأ بيروت برسْم سيناريوهات لروايات عدة لم يكن حُسم حتى أولى ساعات المساء أي منها، لتبقى الحقيقة الوحيدة أن مئات القتلى والجرحى سقطوا، بينهم الأمين العام لحزب الكتائب اللبنانية نزار نجاريان، البعض في سياراتهم، والبعض الآخر تحت الأنقاض في المرفأ، وآخرين في منازلهم وأماكن عملهم.
... مفرقعاتٌ نارية انفجرت بعيد حريق بدأ في العنبر رقم 12، استهداف اسرائيلي لشحنة أسلحة وصواريخ لـ«حزب الله»، كمية من متفجرات «سي 4» التي ضُبطت سابقاً انفجرت، العنبر رقم 12 كان يحتوي على مواد نيترات تفسّر قوة الانفجار الزلزالي... عيّنة من السيناريوهات التي انهالتْ بعيد «تسونامي» الذي ضرب وفاقَم من «حبس الأنفاس» حياله التداولُ بتقارير منسوبة للإعلام الاسرائيلي عن كونه نتيجة ضربة اسرائيلية وهو ما ترافق مع شهادات لمواطنين تحدثوا عن سماع طيران حربي أو رؤية جسم طائر قبيل الانفجار الذي نقلت وكالات عالمية عن شهود أن دويه سُمع في قبرص، في حين نفى وزير الخارجية الإسرائيلي غابي اشكينازي، صلة بلاده بالانفجار.
وحتى مكتب «الراي» الكائن في منطقة الحمراء في بيروت لم ينجُ من حلقة الأضرار الكبيرة التي تسبب بها الانفجار الذي سبقتْه، كما عايشتْه «الراي»، اهتزاز الأرض لبرهة كانت كافية للاعتقاد أن الأمر ناتج عن هزّة أرضية قبل أن يحصل الانفجار الكبير بعدها بثوانٍ قليلة، لينكشف مشهد بيروت والشاشات على صور وفيديوات مخيفة لطوفان الدخان والنار والدمار والدم الذي ظنّ البعض لدقائق أنه ناجم عن عمل إرهابي استهدف شخصية سياسية خصوصاً بعد حديث وسائل إعلام عن ان الانفجار وقع على مدخل دارة الرئيس سعد الحريري في وسط العاصمة، وذلك فيما كانت الأنظار مشدودة في لبنان على الحُكْم الذي ستُصدِره المحكمة الدولية بعد غد في الجريمة - الزلزال التي استهدفت الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير 2005 والتي حوكم فيها غيابياً 4 من «حزب الله».
ومع مرور الدقائق وتأكُّد أن الحريري بخير، بدأ الغموض يزداد حيال انفجار المرفأ وسط غيابٍ لأي رواية أمنية رسمية وتناقُل معلومات عن المدير العام للجمارك بدري ضاهر بأن «عنبر كيماويات انفجر في مرفأ بيروت» وأن الجيش أرسل تعزيزات كبيرة الى المكان فيما عملت طوافاته على اخماد الحريق الذي اندلع جراء الانفجار في المرفأ.
وفيما نُقل عن مصادر قريبة من «حزب الله» أن لا صحة لكل ما يتم تداوله عن ضربة اسرائيلية لأسلحة للحزب في المرفأ، سخر المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم من موقع الانفجار من الكلام عن ان الانفجار ناجم عن مفرقعات، معتبراً «أن ما حصل ليس انفجار مفرقعات بل مواد شديدة الانفجار كانت مصادَرة منذ سنوات».
وفي موازاة ذلك، كانت نداءات الاستغاثة من مستشفيات ومواطنين تتصاعد، وسط إعلان صاحب سفينة «أبومرعي» مرعي أبو مرعي، «أن هناك جرحى عالقون على متن السفينة ونناشد الصليب الأحمر إنقاذهم»، والمعلومات عن نقل عشرات الجرحى بسيارات مدنية وعسكرية بعدما أصيبوا في محيط المرفأ.
وإذ كان الصليب الأحمر يفيد «بان المعطيات الأولية تشير إلى وجود عدد من الأشخاص تحت الأنقاض والصليب الأحمر أرسل عدداً من سيارات الإسعاف إلى مختلف المناطق الشوارع المحيطة ببيروت»، أعلن محافظ بيروت مروان عبود، ان بيروت منكوبة وهناك دمار كبير وما حصل غير مسبوق في لبنان.
وقال خلال تفقد الاضرار في مرفأ بيروت انه فقد الاتصال بعناصر من اطفاء بيروت، فيما نقلت «رويترز» عن مصادر أمنية وطبية لبنانية وقوع عشرة قتلى على الأقل.
وكتب أحد اللبنانيين على «تويتر»: «حجم الصوت والهدير استمر لبضع ثوان، ولم اسمع مثله في حياتي».
وقالت امرأة في وسط العاصمة: «شعرت بما يشبه هزة أرضية، ثم دوى الانفجار. شعرت بأنه أقوى من انفجار العام 2005».
وفي حين كان لافتاً ما أعلنتْه القيادة الوسطى الأميركية من «أننا قلقون حيال وقوع خسائر بشرية كبيرة في انفجار بيروت ونتابع التقارير»، سارع وزير الداخلية محمد فهمي لإعلان أنه «نظراً للحادث الخطير الذي شهدته العاصمة بيروت مساء، ومواكبة لتداعياته والاضرار الكبيرة التي خلّفها، يلغى العمل بمضمون القرار الصادر عن وزير الداخلية والبلديات والمتعلق بالاقفال العام ضمن اجراءات التعبئة العامة لمواجهة انتشار فيروس كورونا خلال الفترة الممتدة من نهار الخميس ولغاية الثلاثاء المقبل».
وجاء هذا التطور الدراماتيكي فيما كانت بيروت تعيش أجواء بدء العدّ التنازلي للحُكم التاريخي الذي ستُصدره المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بعد غد بحق المتَّهَمين الاربعة من «حزب الله» باغتيال الحريري، حيث بدا أن لا صوت يعلو فوق صوت مطرقة العدالة التي سيتردّد دويّها من لاهاي إلى كل العالم الذي يترقّب 7 اغسطس للنُطق بالحقيقة في جريمةٍ إرهابية سياسية... لم يجفّ دمها بعد.
ورغم أن المحكمة الدولية لن تدين «حزب الله» ككيان، إلا أن مجرّد صدور أحكام بحقّ عناصر منه سَبَقَ أن وصفهم أمينه العام السيد حسن نصرالله في معرض «حربه» على المحكمة ورفْضه قرارها الاتهامي بأنهم «قديسون»، سيجعل الحزب أقلّه أمام مسؤولية سياسية ومعنوية وتالياً أمام واقع جديد، «يطارده» حُكْمٌ يصعب تَصَوُّر أنه لن يدْخل على خط الاشتباك الكبير الأميركي - الإيراني والذي يشكّل «حزب الله» أحد أبرز مَحاوره.
وفي حين سيضع الحُكْمُ الحكومةَ اللبنانية التي يعتبرها المجتمع الدولي «حكومة حزب الله»، أمام اختبارٍ جدي هي التي تتخبّط في أزمةٍ مالية - اقتصادية غير مسبوقة في تاريخ البلاد وتعاني عزلةً خارجية بفعل التموْضع الاستراتيجي للبنان في المحور الإيراني، ستكون الأنظارَ شاخصة ابتداء من الجمعة على ما سيترتّب على النطق بالحُكم من تداعيات قانونية وسياسية، ولا سيما أنه سيخضع لمعاينةٍ دوليةٍ لصيقة تنطلق من كون المحكمة صدرت بقرار عن مجلس الأمن (1757 في مايو 2007) تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
ولفح هذا الملف المشهد اللبناني ما قبل انفجار المرفأ وذلك على مساريْن متوازييْن:
* الأول على مستوى السلطة التي بدت، إلى جانب الامتحان الصعب الذي سيشكّله الإصدار المرتقب لمذكرات توقيف بحق المتَّهمين الأربعة الذين حوكموا غيابياً والجواب المنتظَر «بحثنا عنهم ولم نجدهم»، أمام تحدّي استيعاب ردّ الفعل الشعبي في بيئات مختلفة أبرزها «تيار المستقبل» الذي يقوده الرئيس سعد الحريري.
* والمسار الثاني قاده الحريري الذي سيكون حاضراً جلسة النطق بالحكم في لايتشندام والذي برز أمس إجراؤه عشية مغادرته بيروت سلسلة لقاءات مع القادة الأمنيين شملتْ قائد الجيش العماد جوزيف عون، والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان والمدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم.
ولم يكن ممكناً قراءة هذه اللقاءات خارج حرص الحريري على إحاطة يوم 7 أغسطس بعنايةٍ أمنية، في ضوء المنع المرتقب للتجوّل ربْطاً بـ«كورونا»، وتفادي أي انزلاقاتٍ تتّخذ طابعاً صِدامياً، خصوصاً بعدما بات موقف زعيم «المستقبل» واضحاً من التمسك بالحقيقة والعدالة ولكن بعيداً من أي «ثأر أو انتقام».
وفي حين يُنْتظر أن يَحْضر هذا العنوان اليوم في إطلالة نصرالله التي ستتطرّق في شكل أساسي إلى الوضعين الأمني والاقتصادي في البلاد والتهديدات الاسرائيلية للبنان و«حزب الله»، وذلك من باب الدعوة لعدم الانزلاق لأي ردات فعل وتفادي جرّ البلد إلى «فخ الفتنة»، فإن تعاطي السلطة مع الاستقالة - الصدمة لوزير الخارجية ناصيف حتي وحرْصها على إصدار مرسومين متلازميْن «سوبر سريعيْن» بقبول الاستقالة وتعيين شربل وهبة خلفاً لـ حتي اعتُبر أيضاً في إطار استشعار الائتلاف الحاكم بضرورة رصّ الصفوف بملاقاة استحقاق 7 اغسطس وارتداداته الدولية التي ستكون على طريقة «كرة الثلج»، كما بإزاء التوقعات المتقاطعة باندفاعةٍ جديدةٍ في قلْب الهاوية التي سَقَط فيها لبنان نزولاً نحو «جحيمٍ» بات حديثَ الإعلام الغربي والعربي.