هل دَخَلَ لبنان مرحلةَ انطلاقِ «المسار العكسي» خروجاً من الحفرة العميقة مالياً واقتصادياً، أم أن الطريق الطويل نحو نقطة الضوء في آخِر النفق ستكون مزروعةً بألغام قديمة - جديدة مرشّحة للانفجار على وقع الغضب الأكثر ميْلاً للعنف مع ملامح تفلُّت الشارع من الضوابط السلمية التي حكمتْ «ثورة 17 اكتوبر» بنسختها الأولى؟
هذا السؤال الكبير فرض نفسه في لبنان الذي وجد نفسه بعد نحو شهريْن من دخوله للمرة الأولى في تاريخه نادي الدول المتعثّرة بإعلان وقف سداد استحقاقات «اليوروبوندز»، أمام اكتمالِ حلقة «السوابق» على تخوم الانهيار المالي - الذي تتقاطع فيه المسبباتُ التقنية بالسياسية (الداخلية والاقليمية) - ومحاولاتِ وقْف تداعياته الكارثية اقتصادياً واجتماعياً، وذلك عبر تقديم طلب مساعدة رسمي من صندوق النقد الدولي.
وسرعان ما تحوّل هذا التطوّر العنوان رقم واحد في بيروت، هو الذي جاء غداة إقرار مجلس الوزراء البرنامج الإصلاحي للبنان وعشية «اللقاء الوطني» الذي دعا إليه رئيس الجمهورية ميشال عون رؤساء الكتل النيابية (الأربعاء) لعرْض هذه الخطة، والذي كان عالقاً على مدى الشهرين الماضييْن في «شِباك» فيتواتٍ سياسيةٍ قادها «حزب الله» تحت شعار «رفْض الوصاية الدولية» قبل أن ينزل تدريجاً عن «الشجرة».
وبدا واضحاً أن وقْع «الصدمة الأولى» بعد كشْف الخطة الإصلاحية وفتْح الطريق أمام دخول برنامج مع صندوق النقد، حَمَلَ إشاراتٍ غير مُطَمْئنة عكستْ أن المسارَ الإنقاذي الشاقّ سيكون أسيرَ «رياح متعاكسة» تتضارب فيها الحسابات الداخلية والخارجية التي لطالما حكمتْ الواقع اللبناني واضطراباته المفتوحة منذ 2005 والتي شكّلت «المسرح السياسي» للسقوط المالي الكبير.
وتبلْورت هذه الإشارات على مستوييْن:
* الأوّل تقني، وعبّر عنه انطلاق «جبهة الاعتراض المبكر» على البرنامج الإصلاحي مع البيان الشديد اللهجة الذي صدر ليل الجمعة عن جمعية المصارف وبلغ حدّ مطالبة البرلمان بردّ الخطة ومحاسبة مَن وضعها محذراً من أخطار «النهج العقابي» بحقّ المصارف والمودعين الذين سيتحمّلون الوزْر الأكبر من الخسائر المالية (للبنوك ومصرف لبنان) والتي قُدّرت بنحو 241 تريليون ليرة وأيضاً من المساس بالملكية الفردية في مسار إعادة الهيكلة والرسملة.
وفي موازاة الجوانب التقنية من الخطة التي طَبَعها «عيْب» استنادها في أرقامها على سعر 3500 ليرة للدولار ولكن من دون أن «تتجرأ» على تبنّي تحرير سعر صرف العملة الوطنية (رمت كرته في ملعب مصرف لبنان) الذي يبقى من أبرز شروط صندوق النقد إلى جانب تصغير حجم القطاع العام (لم تتناوله الخطة)، توقفت أوساط مطلعة عند اللغة المُرْتَبِكة التي اعتُمدت في الخطة تمهيداً لطلب مساعدة الصندوق والتي ارتكزت على ما «ذكّر به المستثمرون والمراقبون الحكومة» في ما بدا تردُّداً في تحمُّل مسؤولية هذا الخيار وتبعاته الشعبية عندما تبدأ عملية تطبيق الإجراءات القاسية والشَرْطية لتسييل مساعدة الصندوق بحال اكتفى بما لحظتْه الخطة ولم يطالب بالمزيد.
* والمستوى الثاني سياسي، وله شقّان داخلي وخارجي.
وفي الشقّ الداخلي، أعربت الأوساط عن عدم ارتياحٍ إلى احتدام مناخ الاشتباك السياسي بين الحكومة وخصومها ولا سيما «تيار المستقبل» بقيادة الرئيس سعد الحريري الذي كان ذهب بعيْد إقرار الخطة إلى «فتْح النار» على فريق رئيس الجمهورية، وتحديداً رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل على خلفية مواقف للأخير ربْطاً بعنوان مكافحة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة الذي بات «جبهة موازية» لخطة الإنقاذ المالي، مخاطباً إياه بـ «فشر على رقبته إذا كان يعتقد أن بإمكانه سجن الجميع».
وأتى موقف الحريري بعد اجتماع لرؤساء الحكومة السابقين (في دارة الحريري) توّج التحذيرات من مسارٍ انقلابي على النظام الاقتصادي الحر بالدعوة «للتوقف عن تزوير عنوان مكافحة الفساد وتحويله حملة انتقام» والتحذير من «مواصلة العهد وحكومته للسياسات التي تقود بلدنا الى أزمة وطنية خطيرة وندعوهما الى احترام الطائف والدستور»، وذلك قبل أن تعلن كتلة المستقبل ان «اللبنانيين ملوا من إخفاقات هذا العهد».
وكاد هذا المناخ السياسي اللاهب أن يعكّر دعوة عون إلى اللقاء الوطني يوم الأربعاء والرامي لمحاولة توفير غطاء سياسي جامع لخطة الإصلاح يشكل «كاسحة ألغام» أمام مرور آمِن لها في البرلمان.
وفيما استوقف الأوساط المطلعة أن حرص عون على تأمين إجماع وطني على الخطة يتناقض مع إطلاق المعارك السياسية مع المعارضة، لاحظت أن الجوّ الإشكالي الذي ساد بعيد توجيه الدعوة الرئاسية حول دستوريّتها وقفزها فوق رئاسة البرلمان (من ضمن ما اعتُبر محاولات إرساء نظام رئاسي بالممارسة) بدا أنه جرى احتواؤه حرصاً على عدم تفجير العلاقة بين عون وبري وما سيعنيه ذلك على صعيد مصير الحكومة، وسط رصْد لمَن سيلبي الدعوة شخصياً، وهل سيحضر بري والحريري وجنبلاط ورئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي كان أبدى تحفظات على الخطة.
وفيما يطل الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله غداً في كلمة سياسية، أطلق عون عبر وكالة «سبوتنيك» مواقف تنذر بتداعيات سياسية، إذ أعلن غداة تحركات شعبية واسعة في الشارع الذي استعاد نبْضه الاعتراضي بعد «استراحة كورونا»: «لا يمكننا أن نطلب من حكومة لم يتجاوز عمرها مئة اليوم أن تجترح المعجزات»، معبّراً عن خشيته من «أن يتم استغلال نقمة الشارع من بعض الأحزاب المستاءة من أداء الحكومة الجدي، لتفجير الاحتجاجات، وفي كل الأحوال لن نسمح بتفلت الأوضاع الأمنية».
أما الشق الخارجي فتمثّل في بروز إشارتين لافتتيْن، الأولى تأكيد «الإصلاحات أولاً» كشرط متكرر للحصول على المساعدة، والثانية استحضار الأبعاد السياسية لمسار مدّ اليد للبنان ولا سيما لجهة الموقف من «حزب الله» وأدواره الاقليمية، وهو ما عبّرت عنه باريس التي وفي معرض ترحيبها بإقرار الخطة وطلب مساعدة صندوق النقد شددت على ضرورة «إبعاد لبنان عن أزمات المنطقة والتوتر الإقليمي».
ولم تتوان واشنطن بلسان مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شنكر عن إعلان «ننظر في الخطة الإنقاذية لكن الأمر يعتمد في نهاية المطاف على مدى استعداد الحكومة اللبنانية للقيام بالخطوات اللازمة للحصول على مساعدة صندوق النقد»، مؤكداً «أي أموال ستقدّم من صندوق النقد هي ليست مساعدات مجانية بل هي مشروطة بخطوات إصلاحية ومن اللافت أن نرى إذا كانت هذه الحكومة التي يشكل حزب الله جزءاً منها قادرة على الالتزام كلياً بالإصلاح، وخصوصاً أن الحزب يعتمد على التمويل غير القانوني والفساد وتجنّب دفع مستحقاته للدولة كالجمارك والضرائب».