لم يَهْنأ لبنان بتسجيله أدنى عدد إصابات في يوم واحد بفيروس كورونا المستجد، منذ أكثر من شهر والذي بلغ حالتيْن فقط ارتفع معها العدد الإجمالي إلى 632، ذلك أن «جَبَل الأزمات» الذي تعيشه بلادٌ صار أشبه بـ«برميل بارود» متعدّد الفتائل تجعل خفوتَ أيّ منها بمثابة «استراحةٍ» لانتقال «العدسات» إلى ملفاتٍ أخرى لا تقلّ خطورة.
وفيما يقف لبنان أمام مفترقٍ قد ينْعطف معه تاريخُه المالي - الاقتصادي ويتبدّل وجهُه في ضوء الانهيارِ المعلَن غير المسبوق والمَخارجِ المطروحة للإنقاذ الصعب، جاءتْ ذكرى حرب 13 أبريل 1975 التي أحيتْها «بلاد الأرز» هذه المَرة في ظِلال «حِراب كورونا» وحال «الطوارئ الصحية»، لتوقظ ذكريات الدفاتر السود التي لم تمْحها 30 عاماً في رحاب جمهوريةِ الطائف التي ما زالت محكومةً بحروب باردة غالباً، ومعارك سياسية دائمة على تخوم صراعاتٍ أوّلها توازناتٌ داخلية وليس آخِرها أوزان إقليمية تتجاذب الواقعَ اللبناني المفتوح على عواصف المنطقة وملاعب النار فيها.
وإذ يبدو لبنان بعيداً عن استعادةِ تَجْرِبَةِ الحربِ الأهلية في ضوء اعتباراتٍ داخلية سلّمتْ معها القوى المُعارِضة لـ«حزب الله» بتفوّقه من باب الواقعية - التي انسحبت أيضاً تعليقاً للاشتباك السياسي - إلى جانب عدم وجود رغبةٍ خارجية بتوظيف الوضع اللبناني في حربِ نفوذٍ باتت تَجْري في «الساحات الأم» وغالباً بلا قفازات بين الأطراف «الأصيلة»، فإنّ هذه الخلاصة لا تكفي لإخماد المخاوف المتعاظمة من مآل الأزمة المالية غير المسبوقة والتي كان خَفَتَ هديرُها على وقع «قرْقعة» الغزْوة الكورونية التي تشكّل بدورها اختباراً بالغ الدقة تُحبس الأنفاسُ حياله ويتم قياس مَخاطره، تَعاظُماً أو تَراجُعاً، على طريقة كل يوم بيومه.
وحَمل يوم أمس على هذا الصعيد إشارةً تبريديةً مع الإعلان عن إصابتيْن جديدتيْن فقط، في حين كانت المرحلةُ الأولى من عمليةِ إجلاءِ اللبنانيين من بلدان الانتشار تُختتم بأربع رحلاتٍ من جدة وباريس وليبرفيل ولندن، لتُجري الحكومةُ ابتداءً من اليوم عمليةَ تقويمٍ للجولات الخمس ضمن هذه المرحلة وتُقَرِّرَ في ضوء خريطة الإصابات وعددها، إمكانَ استكمال مسار إعادة المُغْتَرِبين (نحو 20 ألفاً) أو وقف الرحلات من بعض الوجهات وربما إخضاعها لضوابط صارمة تضمن عدم نقْل أي من حاملي «كورونا»، كما فرضتْ على آخِر رحلة من لندن.
وينطلق اليوم مسارٌ يُراد منه التخفيفُ بما تَيَسَّر من التداعياتِ الاقتصادية لأزمة «كورونا» ولتدابير «الحجْر العام» على العائلات الأكثر فقراً، مع مباشرة الجيش توزيع مساعدات مالية بقيمة 400 ألف ليرة أقرّتْها الحكومةُ استناداً إلى لوائح اسمية وتشمل في المرحلة الأولى 185 ألف عائلة مسجّلة، وسط توقُّف الأوساط المتابعة عند «إطلاق النار» السياسي على هذه الخطة من بعض أطراف الحكومة نفسها على خلفية طرْح علامات استفهام حول شوائب تعتري اللوائح وتفرض تحديثها والتدقيق بها، في موازاة إثارة قوى معارِضة الخشية من استخدام هذا المسار في إطارٍ يجْعل لمناصري بعض الأحزاب أولويةً على آخَرين من ضمن عمليةٍ لا يمكن فصْلها عن التشفّي السياسي من الخصوم والتمدُّد الانتخابي.
وينسحب هذا المناخ «المضطرب» على الملف المالي الذي كان قفز الى الواجهة مجدداً مع تقديم مسودة خطة الإنقاذ التي اقترحتْها شركة «لازار» للاستشارات المالية وبدأت الحكومةُ بمناقشتها وترتكز على وضع اليد على ما لا يقلّ عن 50 في المئة من أموال المودعين في المصارف لمعالجة فجوة مالية بنحو 62 مليار دولار (الخطة حدّدت الخسائر المتوقّعة من عملية إعادة الهيكلة الشاملة بنحو 83.2 مليار دولار، في مقابل رساميل المصارف البالغة 20.7 مليار دولار)، إلى جانب اقتراحاتٍ قاسية ضريبية وغيرها.
وعلى وقع الصراخ الذي انفجر بوجه هذه المسودة من أفرقاء من داخل البيت الحكومي وخارجه على خلفية رفْض أي مساس بأموال المودعين، وبروز إشاراتٍ إلى تَراجُع عن هذه الخطة والشق المتعلق بالـHAIRCUT تحت ستار أن المراحل الأولى منها لم تتضمن كلمة «قص شعر» بل تشديد على «الحفاظ على أموال 90 في المئة من المودعين»، فإن قلقاً لم يتبدّد على خلفية منحى تصاعُدي عبّرت عنه الخطة ومواقف لأطراف وازنة بالحكومة تمعن في إلقاء اللوم في الانهيار المالي على المصارف وحاكم البنك المركزي رياض سلامة، في ما يبدو إما مقدّمة لمسار «انتقام سياسي» واما هروب إلى الأمام من عدم القدرة على مواجهة جذور الأزمة المرتبطة بالخطوط الحمر أمام معالجة ملفات مثل المعابر الحدودية وتفلّتها وتخفيف أثقال القطاع العام على الخزينة وبالأثمان السياسية لجرّ لبنان إلى خارج الحضن العربي.
ولم تكن عابرةً في هذا الإطار اندفاعة «حزب الله» بلسان نائبه علي عمار لمهاجمة القطاع المصرفي، معلناً «لا يجوز الاستسلام لجائحة جمعية المصارف»، مطالباً الدولة «بوضع اليد على مَن استساغ التصرّف بأموال الناس، واذا أضفْنا له الدور الشيطاني لحاكم مصرف لبنان».