ليس أكثر تعبيراً عن المرحلة العالية الخطورة التي يمرّ بها لبنان من وقوفه على مشارف أيامٍ ستحدّد مسارَ عنوانين باتا يكتسبان، إلى جانب تَلازُمهما «السوريالي»، طابعاً «مصيرياً»، وهما الأزمة المالية غير المسبوقة التي وصلتْ إلى مفترق «يا أبيض يا أسود» في ما خصّ الخيارات التي ستعتمدها الحكومةُ بإزائها، وفيروس كورونا المستجدّ، الذي يتمدّد بين اللبنانيين وفي يومياتهم واضعاً السلطات أمام اختبار السيطرة عليه قبل أن يُسقِط «الأمن الصحي» للبلاد.
وبدا واضحاً أن لبنان يهيئ أرضيةَ مزدوجة، أولاً لـ«تَجَرُّع سم» التخلف عن سداد سندات «يوروبوندز» بقيمة 1.2 مليار دولار تستحق في 9 مارس، والذي يُخشى أن يضع «بلاد الأرز» في عين عاصفة سياسية - قانونية دولية ما لم يكن سبقه توفير شروط «هبوطٍ آمن» يُجَنِّبُ المضاعفات المتعددة البُعد، وثانياً لتَمَدُّد «كورونا» الذي سجّل أمس 3 حالات جديدة موثّقة رفعت عدد الإصابات إلى 13 وسط تقديراتٍ بأن المَخْفي أعظم.
وفي حين سيشكّل القرار الذي ستتخذه الحكومة حيال «اليوروبوندز» و«الهيكل» الذي سيتركز عليه «محطة مهمة نحو رسم معالم لبنان المقبل»، وفق ما أعلن رئيس الحكومة حسان دياب، فإن آليات التعاطي مع «كورونا» والوقائع التي سيكشفها بدء انقضاء فترة احتضان الفيروس (14 يوماً) والتي يتوسّع مداها الزمني مع استمرار قوافل العائدين خصوصاً من إيران والذين لا يخضعون إلا للحجر المنزلي، تجعل النظامَ الصحي أمام تحدي إثبات القدرة على التعامل مع أي تَفَشٍّ للمرض.
وقد تسارعتْ الاجتماعاتُ أمس في السرايا الحكومية في إطار الاستعدادات للقرار الكبير في ما خص استحقاق 9 مارس، والذي لن يُعلن قبل الجمعة أو السبت، وسط تظهير الملامح الأولى للخيار غير المفاجئ المتمثّل بعدم السداد، وذلك من خلف خطوط الارتباك والاشتباك بين مكوّنات الحكومة، وهو ما عبّر عنه «هجومٌ إعلامي»، بدا على طريقة إعطاء قوةِ دفْعٍ إضافية لـ«عدم الدفع»، من قريبين من «حزب الله» على وزير المال غازي وزني وفريق رئيس البرلمان نبيه بري اتّهمه بالحضّ على السير بخيار السداد، الأمر الذي اضطرّ الأول للتسريب عبر مصادره أن «قرار الدفع غير وارد ولتدفع المصارف إن أرادت ذلك» وهو ما لاقاه وزير المال السابق علي حسن خليل بتأكيد «اننا كنا وما زلنا ملتزمين خيار عدم الدفع في سندات الدين وفوائدها على حساب حقوق المودعين».
وفي موازاة دلالاتِ هذا الإرباك، والذي سَبقه أيضاً بروز عدم تناغُم بإزاء حدود الاستعانة بصندوق النقد الدولي الذي طلب لبنان منه مشورة تقنية واكَبها حزب الله بـ«الصراخ» رفْضاً لدخول أي برنامج معه و«الوصاية الدولية»، فإن الغموض يلفّ الإطارَ الذي سيغلّف قرار عدم الدفع وحدوده وسط سؤالين مركزييْن: الأول هل سيكون الأمر منظّماً وبالتفاهم مع الدائنين الأجانب (يحملون نحو 800 مليون دولار) ومن ضمن إعادة هيكلة أو جدولة او الاثنين معاً.
والثاني: هل سيأتي على طريقة وضْع حَمَلة السندات في ربع الساعة الأخير أمام أمرٍ واقع لجرّهم إلى تَفاوض يعتقد البعض أنه سيكون بشروط لبنان، فيما يحذّر كثيرون من أن ذلك قد يفتح المجال أمام مسارٍ معقّد من المقاضاة الدولية في ضوء الأجواء السلبية التي عبّر عنها أول جسّ نبض مع مجموعة «أشمور» التي باتت تحمل 25 في المئة من سندات مارس بالإضافة إلى نسبة مماثلة من استحقاقَين آخريْن في 2020 ما يمنحها «حق الفيتو» وأكثر في أي مفاوضاتٍ لإعادة الهيكلة.
وبينما كان رئيس الحكومة يعلن «أن معالجة موضوع يوروبوندز سيتخذ الجمعة أو السبت بقرار يحفظ حقوق المودعين الصغار ومتوسطي الحال ومصلحة لبنان»، في موازاة تأكيد حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، «ان من غير الوارد المس باحتياطي الذهب ولا قرار لي باليوروبوند والقرار تتخذه الحكومة»، برز ما نُقل عن مصدر فرنسي رفيع المستوى عبّر عن قلقه «من مقاربة المسؤولين اللبنانيين لاستحقاقات الديون الخارجية»، معتبراً ان «التخلف عن الدفع من دون تفاهم مع الدائنين سيؤدي حكماً إلى الانهيار الكامل يصعب على الحكومة تحمّله، شعبياً ودولياً، وعندئذٍ لا يمكن تقديم أي مساعدة للبنان إلا من خلال وصاية مالية، وتنفيذ شروط صندوق النقد الدولي».
وترافق هذا المناخ الضاغط مع سابقةٍ، ذات دلالاتٍ كبيرة، شكّلها استماع النائب العام المالي القاضي علي إبراهيم والمحامين العامين الماليين، من باب جمْع المعلومات، إلى إفادة رئيس جمعية المصارف سليم صفير ورؤساء مجالس الإدارة لـ14 مصرفاً في قضية تحويل الأموال إلى الخارج بعد تظاهرات 17 أكتوبر والمقدّرة بـ2.3 مليار دولار.
وفي حين يستكمل إبراهيم في اليومين المقبلين الاستماع إلى ممثلين آخرين لعدد من المصارف، عُلم ان النائب العام المالي سأل أيضاً عن القيود التي فرضتها المصارف على أموال المودعين وحجزها، بالإضافة إلى بيع بعض البنوك حصتها من «يوروبوندز» مارس بعد إخضاعها لحسم ناهز 50 في المئة لصناديق أجنبية أبرزها «أشمور»، وهو ما عزاه صفير إلى رغبة المصارف بالحصول على «دولارات طازجة» لتمويل الموجبات المالية المقدرة بنحو 9 مليارات دولار وتلبية احتياجات المواد الأولية من وقود وقمح ودواء.