«علي... وقّع على الخريطة النهائية لتوزيع الطاولات والمكاتب، الوقت يدهمنا. من تريد في الغرف من رؤساء الأقسام ومن تريد في الصالة؟».
كان ذلك قبل ربع قرن. المكان خاوٍ تماماً... صالة مفتوحة على الفضاء لا شيء فيها سوى الحلم والشغف. كان الصوت صوت «الريّس» بو مرزوق الذي يذهلك بالقدرة على التعامل مع العناوين الكبيرة والتفاصيل الصغيرة بالقوة نفسها والمتابعة ذاتها. شيئاً فشيئاً تتركب الأشياء وتتشكل الغرف الإسمنتية والزجاجية وتكتشف أن الحجارة والجدران والأرضيات تأخذ مكان برامج التخزين في الحواسيب الآلية وتتجاوزها إلى استعادة المشاهد بخيالاتها وأبعادها ومجسماتها.
قد يعيد لي الأرشيف صورة، وقد يظهر لي الحاسوب مقالاً، وقد أسترد من المجلدات المحفوظة صحيفة. إنما من يعيد ما قد تبوح به الجدران والحجارة من ذكريات ومواقف وأسرار على امتداد ربع قرن في مساحة التصقت بنا سبعة أيام في الأسبوع!
مكاتب التحرير. هنا الورشة و«عدة الشغل». تنسى الوجوه ويتحول الزملاء أنفسهم إلى خبر أو تحليل أو لقاء أو معلومة، تنسى الأسماء وأنت تبحث عن المادة التي ستكون جسر الولادة اليومية لصحيفة، ثم تسترد أنفاسك بعد الإقفال وتكتشف أنك بحاجة إلى استعادة الأنسنة من الورق إلى الجسد والروح. تعود إلى الوجوه والأسماء وتطلب السماح من صحافيين - أشقاء يدركون مثلك تماماً حكم القوي (الصحيفة) على الضعيف.
قسم الاقتصاد في صالة التحرير دائماً الأول إلى اليمين. يليه الفنون والمنوعات فالخارجيات فالمحليات فالرياضة... فـ«كانتين» الشريك «القوي» عبدالقوي. الصفحات المتخصصة كانت تتحرك مع التطورات والتنقلات، لكن المشهد عموماً كان ثابتاً. حتى عندما اقتحم التلفزيون البنيان والهيكل الوظيفي حرص «الريّس» على النأي بنفس الجريدة عن «المستجدات الخرسانية» محافظاً على تقليدية المكان وعراقته. تغيرت وجوه وتبدلت وبقي المكان شاهداً صامتاً أو راوياً خيالياً للقصص. قد يمر فيه وأمامه ألف شخص فلا يضيعون ثانية من التفكير بأن الحجر الذي أمامهم هو حجر، وقد يمر شخص صار المكان جزءاً من هويته ومصدر ألفته فينظر إلى الحجر لتنفتح قصص تتجاوز الربع قرن. كان صرحاً من جماد فحكى ... وكتب عند هجرانه.
لم يكن مبنى «الراي» مقراً لصحيفة، بل هو مجموعة العاملين فيه، الباقون أطال الله في أعمارهم والراحلون الذين غادرونا رحمهم الله. اندمجت الأقسام ومسمياتها بأسماء المتآلفين مع المكان في توليفة نادرة لم نألفها في أماكن العمل السابقة. لم يكن مقراً. صار شريط ذكريات، ما أن تغمض عينيك حتى تتوالى المشاهد بكل تفاصيلها. ومع مغادرة آخر طاولة لصالة التحرير وآخر صندوق، يحدوك الفضول إلى زيارة ليلية عسى أن تجد «اللوح السحري» كما في فيلم «ليلة في المتحف» حيث تعود الآثار ومجسمات الحضارات ومختلف الكائنات إلى الحركة بعد منتصف الليل ضاربة في عمق الزمن... ومستحضرة له.
صالة التحرير في الشويخ خاوية ساكنة مهادنة راكدة على غير عادتها وهويتها. تقف عند الباب مغادراً وتتذكر المشهد نفسه قبل ربع قرن. تغالب دمعة صغيرة كتبتها الأيام بحبر التجربة والألفة والصداقة وكأنها تخط: «أوتهون عليك العشرة؟».
في المبنى الجديد لجريدة «الراي» لم يتغيّر شيء، بل تطورت أشياء بحكم المسار الطبيعي للتحديث. ومع ذلك تحنّ إلى «الصوف العتيج» كما في المثل الكويتي المشهور، وتكرر: كنا هناك لكن الصحيفة تبقى هنا. حيث فريق العمل... أسرة المولود اليومي.