دخلتْ «ثورةُ 17 أكتوبر» في لبنان شهرَها الثالث أمس، على وقع مؤشراتٍ تشي بأن البلادَ على شفا «خرابِ كبيرٍ» مع تَعاظُمِ «الحرب الباردة» بين الأطراف السياسية، وبدء الهجوم المضاد على الثورة وميادينها، والانتقال المضطرد من حال الانهيار المالي - الاقتصادي إلى ما هو أدهى في ظلّ مَظاهر الانزلاق من الانهيار إلى الإفلاس.
وينكشف مأزقُ السلطة مع الاستشارات النيابية المُلْزِمة التي يُجْريها اليوم رئيس الجمهورية ميشال عون (بتأخير 48 يوماً) لتسميةِ الرئيس المكلف تشكيل الحكومة الجديدة، وسط اتجاه محسوم لتسمية الرئيس المستقيل سعد الحريري مع ترجيح حصوله على نحو 70 نعم من أصل 128 نائباً، وذلك بعد الموقف الحاسم لـ«التيار الوطني الحر» (الطرف المسيحي الوازن) بعدم تسميته، وكذلك سيفعل «حزب الله» لاعتباراتٍ تتصل بالتضامن مع حليفة (التيار الحر).
وإذا كان من الثابت أن الحريري، سيقبل بتكليفه رغم ما يعتبره البعض «التفويض الناقص» من النواب، فإن اقتناعاً يسود بأنه لن ينجح على الأرجح في إنجاز عملية التأليف في وقت قريب، هو الذي سيُكلَّف وسط معارضةٍ حاسمة من عون وفريقه بعدما أعلن رئيس «الوطني الحر» الوزير جبران باسيل عدم المشاركة في الحكومة وعزْمه الانتقال إلى المعارضة، وتالياً سيكون زعيم «تيار المستقبل» أمام مجموعة من التحديات:
• صعوبةُ إقناع الشارع المُنْتَفِض بمنْحه فرصة ترؤس الحكومة بعدما كان استجاب لمطلبه حين استقال (فسقطت حكومته) وتبنّى مطلبَ الانتفاضة بضرورة تشكيل حكومة اختصاصيين مستقلّين.
• التعارض الحاد بين ما يريده الحريري (حكومة اختصاصيين مستقلّين) وما يضغط في اتجاهه «حزب الله» الذي عاود المطالبة بـ«حكومة شراكة» تتمثّل فيها القوى السياسية الأساسية.
• المواجهةُ المفتوحةُ بين رأسيْ السلطة في الحكومة العتيدة، أي عون الذي لن يُهادِن والحريري الذي يُدْفَع نحو تولي تفكيك «القنبلة اللاهبة» المتمثلة بالانهيار المالي.
واستمرت مؤشراتُ هذه المواجهة عشية الاستشارات، إذ نُقل عن مصادر قريبة من القصر الجمهوري أنّ موعد الاستشارات في بعبدا باقٍ اليوم وليتحمّل الجميع مسؤولية النتائج، معلنة «سنذهب إلى التكليف إلا اذا كانت الأصوات متساوية أو هزيلة، ولا مرشح لبعبدا».
وإذ علمت «الراي» أن اجتماعاً بعيداً عن الأضواء حصل مساء السبت بين عون والحريري الذي أبلغ إلى رئيس الجمهورية أنه لن يشكّل إلا حكومة تكنوقراط، عمّمت مصادر زعيم «المستقبل» تأكيده أن مواصفاته للحكومة الجديدة «لن تتبدّل، وهو يشدّد على ضرورة تشكيل حكومة من الاختصاصيين والاختصاصيات تتمكن من التصدى للتحديات الاقتصادية والمعيشية».
وكشفتْ أوساطٌ واسعة الاطلاع في بيروت لـ«الراي» عن السيناريو الأكثر احتمالاً في شأن الملف الحكومي والذي يقوم على جعْل الحريري رئيساً بقبّعتيْن... رئيساً لحكومة تصريف الأعمال، ورئيساً مكلَّفاً تشكيل حكومةٍ لن تُشكَّل.
وفي تقدير هذه الأوساط أن ما يهمّ «حزب الله»، الذي دَفَعَ بقوةٍ لمعاودة تكليف الحريري رغم معارضة حليفه المسيحي، هو وضْع زعيم «المستقبل» في الواجهة لإدارة الانهيار وجعْله مُريحاً لا مُريعاً.
ورأت أن «حزب الله» يدرك أن الحريري، بشبكةِ علاقاته الدولية وبما يمثّله في إطار التوازنات الداخلية، وحده القادر على الحدّ من المنزلقات الخطيرة التي لم يعد بالإمكان تَفاديها في ظل الانهيار المُتَسارِع في الوضعيْن المالي والاقتصادي.
واعتبرت هذه الدوائر أن انتقالَ السلطة من مُهادَنَةِ الانتفاضة، بعد انتزاع وسيلة الضغط الأهمّ منها (أي قطْع الطرق)، إلى طلائع هجومٍ مضاد عشية الاستشارات النيابية المُلْزِمة يشي بوجود قرارٍ كبير بكسْر إرادة المُنْتَفِضين الذين عادوا بعد ظهر أمس إلى وسط بيروت للقول إنهم لن يرفعوا «الرايات البيض» في ما أسموه «أحد التشبيك - انا خط أحمر»، وذلك رفْضاً لحكومةٍ تكنو - سياسية ولرئيسِ حكومةٍ من الطبقة الحاكمة وسط شعاراتِ «مكمّلين بوج كلّ المحاولات لكسْر كلمة الناس»، و«يا مننزل يا مننذلّ».
وكانت ملامح الهجوم المضادّ لاحتْ من خلال وقائع عدة أهمها:
• السلوك المُفاجئ في استخدام المؤسستين العسكرية والأمنية «القوة المفرطة» في مواجهة المتظاهرين، كما أظهرتْ أحداث الأيام الأخيرة، من جلّ الديب والجيّة، وصولاً إلى معقل الانتفاضة في ساحتيْ رياض الصلح والشهداء.
• ليلة «القبض على الأنفاس» في وسط بيروت (ليل السبت - الأحد) مع تَكاتُف أنصار «حزب الله» وحركة «أمل» ومندسّين وشرطة البرلمان وفرقة مكافحة الشغب على المحتجّين ومطاردتهم بالحجارة والعصي والقنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه، في أشرس الهجمات التي أوقعت في صفوف المتظاهرين السلميين نحو 54 جريحاً (و20 رجل أمن).
• المقدماتُ التي انطوى عليها الهجومُ المضادُ على «الثورة»، والتي تجلّت في اختراقٍ مدبَّر لساحتيْ رياض الصلح والشهداء عبر الزجّ بـ«خيمٍ» مُوالية لأطراف السلطة واستخدامها لـ«التخريب» من الداخل، على غرار حرْق خيمة «الملتقى» التي يديرها الأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت مكرم رباح، وذلك بعد فبْركة حملةٍ من الاتهامات بترويجه للتطبيع، و«تخوين» الناشط المدني لقمان سليم الذي يُشْرِف على خيمة أخرى وشن حملة ترهيبٍ ضد عائلته في الضاحية الجنوبية لبيروت (معقل «حزب الله»).
وتحت وطأة الوقْع البالغ السلبية داخلياً وخارجياً لليلة قمْع الثوار، أصدرتْ وزيرة الداخلية في حكومة تصريف الأعمال ريا الحسن بياناً أعلنت فيه أنها «تابعت طوال ليل السبت بقلق وحزن وذهول المواجهات في محيط مجلس النواب وفي شوارع بيروت والذي أدى الى احتكاك بين القوى الأمنية والمواطنين وسقوط جرحى من الجانبين»، لافتةً إلى أنه «بسبب دخول عناصر مندسّة وتَوزُّع المهمات المنوطة بالقوى الأمنية، ومنعاً لضياع المسؤوليات، وحفاظاً على حقوق المتظاهرين، طلبتُ من قيادة قوى الأمن الداخلي إجراء تحقيق سريع وشفاف لتحديد المسؤولين والمسؤوليات ليبنى على الشيء مقتضاه».
وأعربت أوساطٌ واسعة الاطلاع في بيروت لـ«الراي» عن خشيتها من ارتفاع منسوب الاضطراب، في ملاقاةِ زيارة الديبلوماسي الأميركي ديفيد هيل لبيروت لمعاينةِ ما يجري عن قُرب، وهي الزيارة التي وصفها رئيس المجلس التنفيذي في «حزب الله» الشيخ نبيل قاووق بأنها «مسمومة ومشؤومة».
وفي الدوحة، أعلنت «وكالة الأنباء القطرية»، أن أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني تلقى اتصالاً من عون حيث تمت مناقشة الأوضاع، واستعرضا العلاقات الثنائية.
وأشارت إلى أن عون وجّه الدعوة لأمير قطر لزيارة لبنان، والأخير رحّب بالدعوة.