تَخَرَّجَ من «الساحة العتيقة» وتَدَرَّجَ «فوق الخرائط» ويريدها «مهمةً صعبة» في الزمن الصعب

الحربُ بـ «الشخصي» على الخطيب تُغْضِب مزبود عشية الفرحة... المحتملة

1 يناير 1970 09:14 م

... ربما هي مِن أَعْرق القرى المأهولة في لبنان، مسجدُها البهيّ الطلّة مِن الأقدم، وساحتُها العتيقة، ملعب الذكريات، ما زالت صامدةً، أما حارتُها التحتا التي هزّها زلزالُ 1956 فلم يُسْقِطْها الزمنُ واستمرّتْ كأنها محمية تراثٍ لا يشيخ ويؤاخي حداثةَ البيوتاتِ الجميلة بطرازها الجبلي من حجارةٍ وقناطر وقرميد.
يصعب على المرء أن يكتشفَ بلدتَه من جديد بعدما أخذتْه المدينةُ والضوضاءُ ومشاغلُ الحياة، فها هي مزبود المحروسة بمزاراتِ «الأولياء الصالحين» من الجهات الأربع، تقيم الآن في «عيْن الحدَث» بعدما حفرتْ في دفاتر التاريخ صولات وجولات، أكثرها إثارة كان مقتل الأمير قرقماز في عيْنها العتيقة.
فمزبود، البلدةُ الشوفية الهادئة والجميلة، المتربّعة في قلْب إقليم الخروب، يُساوِرُها الآن مزيجٌ من مَشاعر الفرح والغضب... تُفاخِرُ باحتمالِ انضمامِ ابنها سمير الخطيب إلى نادي رؤساء الحكومة، لكنها ناقمة جراء الحملة الظالمة التي تُشَنّ على «ابن البيت» الذي يشبه أقرانُه من الذين بنوا نجاحاتِهم مدماكاً تلو مدماك.
وأكثر ما يُثير سخطَ أبناء البلدة التي تَخَرَّجَ المدير العام لشركة «خطيب وعلمي» من حاراتِها العتيقة، الخلطُ بين السياسي والشخصي في الـ «بروباغندا» التي انفجرتْ بلا هوادة في وجه الرجل الذي بدا هدفاً لحربٍ مُبَرْمَجَةٍ من الاشاعات غير المألوفة في الحياة السياسية وألاعيبها المجنونة.
فمزبود، التي لم يَرُقْ لها هذا التجني على المهندس الخطيب، «ليست استثناء» في بلادٍ تعجّ بالسياسة وخياراتها، وتغلي فوق صفيحٍ الصراع بين السلطة والشارع، وتالياً لا تضيرها المقاربةُ بالسياسة، مهما كانت قاسية، لـ «المهمة الصعبة» التي أرادها ابنُها وفي «الزمنِ الصعب» لكنها مصدومة بحفلة التجريح بحقّه.
لم يكن الاعتراضُ السياسي على خيارِ الخطيب يحتاج إلى التشكيك بـ «لبنانية» ابن العائلة التي لعبتْ دوراً مرموقاً في تاريخ لبنان، كالنائب المشرّع أنور الخطيب، والتي ساهم خيرةُ رجالاتها في إرساء قواعد الحُكْم في الدول الوطنية في المنطقة، من سورية إلى الأردن فمصر وسواها.
ولم يكن يخطر على بالٍ أن تصلَ المكائدُ إلى حد الترويج لصورةْ على «الواتساب» يُزْعَمُ أنها للخطيب مقاتلاً في صفوف الفلسطينيين خلال «مجزرة الدامور»، وكأنه يراد «شيْطنة» الرجل الذي لم يتورّط يوماً، كالسواد الأعظم من أبناء بلدته، في الحربٍ العبثية، وانصرفَ إلى الدراسة التي قادتْه إلى مصر التي تَخَرَّجَ من جامعاتها مهندساً ثم إلى العمل في كنف «خطيب وعلمي».
تُدْرِكُ مزبود التي تشبهُ اسمَها بالسريانية (العطاء) وبالعربية (الزبد)، أن ثمّة مآخذ على إدارة الخطيب لمعركة تكليفه وما يقال عن تنازلاتٍ قدّمها يمكن أن تُحْرِجَ مرجعياتٍ ولا تُرْضي الشارع، لكن ما لا تفهمه هو تشهيرُ «فاسدين ومُفْسدين» بتجربته، وتَغاضي مَن يغمزون من علاقاتٍ «مشبوهة» للشركة التي يديرها عن فسادٍ أخطر وأدهى اسمه الدم المسفوك في بلادٍ خسرتْ خيرةَ رجالاتِها بالاغتيال السياسي.
والأشدّ وضوحاً في معارضةِ «صديقهم» سمير الخطيب وخَيارِه، كانوا رؤساء الحكومة السابقين الذين تحدّثوا عن «الأسباب الموجبة» لموقفهم من دون الإساءة إلى الرجل الذي غالباً ما ائتمنوا شركتَه على مشاريع عائدة للدولة رغم كل ما يقال عن إنها أفادت من «منظومة الفساد» في البلاد التي تحتاج قضاءً مستقلاً ترجمةً لشعار الانتفاضة «كلن يعني كلن».
في مزبود المصابة بـ «الاستهجان» من حملاتِ تشويه السمعة التي يتعرّض لها «رئيس الحكومة مع وقف التنفيذ» في انتظار «غداً لناظره قريب»، حكايا شبيهة بتلك التي ترويها الجَدات عن مؤسِّس «خطيب وعلمي»، تلك الامبراطورية التي تحتلّ المرتبة 45 عالمياً ولها 30 فرعاً في لبنان والخارج وقوّتها الضاربة نحو 6000 مهندس.
منير الخطيب - المؤسس، الذي كان يحلو للجميع مناداته «أستاذ منير»، بنى هذا الصرح بتعبٍ وعَرَقٍ وعِصامية. ويُروى أن والده أبو نجيب الذي كان من كبار الملّاك باعَ أرضَه لإرسال نجله منير إلى الولايات المتحدة للدراسة، يوم كان السفرُ الى تلك البلاد البعيدة شاقاً ومُكْلِفاً و... نادراً.
عاد «الأستاذ منير» من الولايات المتحدة بشهادتيْن العام 1955، بكالوريوس في الهندسة المدنية من جامعة ميتشيغن، ودراسات عليا في التخصص عيْنه ومن الجامعة نفسها، وفي بيروت دَرَّسَ وفي شكل متقطّع في الجامعة الأميركية بين 1957 و1986 في حين أسّس في الـ 1959 شركة الاتحاد الهندسي التي عُرفت لاحقاً بـ «خطيب وعلمي» بعد انضمام زهير العلمي إليها العام 1963.
هذه المحطات، التي تُوِّجَتْ بإنجازاتٍ كثيرة في مسيرةِ منير الخطيب، كانت في كفّة، وحرْصُه الشديد على معاودة شراء الأراضي التي باعَها والدُه لتعليمه في كفةٍ أخرى، ما جعل حكايتَه أمثولةً يردّدها المزبوديون الذين يتذكرون «أيام الدبشة» حين كان يُنصب في كل صيفٍ مخيّمٌ لطلاب الهندسة في الجامعة الأميركية في تلّةٍ يملكها الخطيب.
وعلى عكس ما يشاع، لم يرِث سمير الخطيب الشركة من والد زوجته منير الخطيب، بل تَدَرَّجَ فوق خرائطها وفي مكاتبها وورشها وساهَمَ في توسيع نشاطها يوم أقام لأكثر من 20 عاماً في السعودية... وها هي «خطيب وعلمي» في عهدة رافعتيْن، رئيسها نجيب منير الخطيب ومديرها العام سمير الخطيب.
مَن يعرف مزبود، التي تحرس مظاهرَها التاريخية من دون أن تخسر اندفاعتَها نحو الحداثة، يدرك أن الخطيب لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، فهو ترعرع في بيتٍ في الساحة العتيقة، وفي عائلةٍ بقيادة أبٍ فاضلٍ معاون أول في قوى الأمن المرحوم (محمود) أبو نبيل.
ومن ساحة حارة التحتا ارتقتْ هذه العائلة بشبابها الثمانية السلّم درجةً درجةً... المرحوم الدكتور نبيل الذي أمضى ردحاً من الزمن مستشاراً في مجلس الوزراء الكويتي، والطبيب الجرّاح كميل الذي هاجَرَ إلى بريطانيا، وسمير مالئ الدنيا وشاغل الناس، ومحمد الودود، مروان رمز الآدمية، المهندس هلال صديق الدراسة، طبيب الأسنان قتيبة الذي خَطَفَهُ الموت المفاجئ، والشاب الوسيم طبيب الأسنان بهاء.
لم تنجُ هذه العائلة من فاجعةِ موت ابنتها الوحيدة حين خَطَفَها حادِثٌ عابِرٌ، فبكتْ يومها مزبود التي لم يخفت مع «عصْرنتها» الإحساسُ بالتضامن بين أهلها في السراء والضراء تماماً كما هو الحال اليوم في مواجهةِ سهامِ التجريح الشخصي المُصَوَّبَةِ على ابنها الأوفر حظاً لترؤس الحكومة.
لن يذهب الشباب والصبايا اليوم إلى «التخييم» في الدلب، فالجميع في مزبود سيكون على أعصابه في انتظار غداً، يوم الاستشارات الكبير في القصر الجمهوري، ومعه يتّضح الخيْط الأبيض من الأسود في حظوظ الخطيب وفي اتجاهاتِ المأزق الوطني الكبير.
وأمام المسجد، الذي بناه أحد الرعاة قبل 800 عام يوم اكتشف بـ «رنين عصاه على الصخرة جرّة تحتوي ذهباً»، يحتشد الأهالي، خلفهم السياسة وأمامهم الرابط «الضيعاوي» يحبسون الأنفاس، فليس قليلاً أن تصبح مزبود دارةً لرئيس الحكومة العتيد، ومعها إقليم الخروب المصاب بمشاعر «الغُبن» من الأقربين قبل الأبعدين.
فهذه البلدة لن تنام على الأرجح وستمضي الليلَ بعيون مفتوحة على الشاشات والمفاجآت، فسيناريوهاتُ الاثنين على غموضٍ كبير ويصعب معها معرفةُ اتجاهات الريح.