لبنان... السلطة تُعْلي خياراتها والانتفاضة تَمْضي بـ «صوتها»

1 يناير 1970 09:07 م

بدا لبنان، مع مُعاندةِ السلطةِ وهروبها إلى الأمام ومُمانَعَتِها الاستجابة لمَطالب الثورة الشعبية بعد مرور 24 يوماً على انفجارها، أمام مظاهر انهيارٍ مريعٍ يَصعب التكهن بسيناريواته الكارثية مع الفوضى غير المسبوقة في حال المصارف وشَبَحِ الأزمات الزاحف من كل حدب وصوب، خصوصاً في قطاعات المحروقات والصحة والمواد الاستهلاكية المستورَدة.
فالسلطةُ المتمثّلة بتَحالُف فريق رئيس الجمهورية ميشال عون (أي التيار الوطني الحر) و«حزب الله» تستمرّ في إدارة الظهر لمطلب تشكيل حكومة مستقلة من اختصاصيين تتولى وقف الانهيار المالي - الاقتصادي والتمهيد لانتخاباتٍ نيابية مبكرة.
ولم تشهد الساعات وربما الأيام الماضية أي مشاوراتٍ من النوع الذي من شأنه كسْر المرواحة، وكأن السلطة التي تراهن على «هطول الأمطار» للإجهاز على الثورة الدائمة الحضور في الساحات والميادين لم يقلقها، بحسب أوساط سياسية، الكلامُ الكبير عن خطرِ انهيارٍ وإفلاس وعن أزماتٍ تجاوزتْ «المعالجات التقنية».
فالمأزق السياسي الذي يراوح فوق صفيحِ الساحات التي بدا من الصعب إنهاكها، مردّه إلى المراوحة حتى الآن بين «استحالتيْن لا تصنعان» حلاً هما:
* إصرار تحالف فريق عون - «حزب الله» وحركة «أمل» على قيام حكومة تكنو - سياسية يريدها برئاسة رئيس الحكومة المستقيلة (منذ 12 يوماً) سعد الحريري دون سواه.
وبات واضحاً أن الحريري، الذي يتعرّض لضغوط داخلية لترئيسه «حكومة الآخَرين» ما زال يُعانِد هذه التشكيلة التي ستُغْضِب الشارع ولن تُرْضي المجتمع الدولي الذي يحتاج لبنان إليه للمساعدة بانتشاله من الانهيار المالي - الاقتصادي.
* إبداء الحريري استعداده لترؤس حكومة تكنوقراط ومن غير السياسيين، برنامج عملها النهوض بالبلاد بما يجنّبه مخاطر فشلٍ كان تسبّب به الأداء والحسابات المتضاربة لأطراف في الحكومة المستقيلة.
وإذ كان يستحيل على الحريري القبول بنسخة منقّحة عن حكومته السابقة تتشكّل من سياسيين وتكنوقراط بحسب أوساط مطلعة، فإن الأكثر رسوخاً حتى الآن هو استحالة سير تحالف فريق عون - «حزب الله» بحكومة تكنوقراط للأسباب الآتية:
* ان «حزب الله» لن يسلّم بإخراجه من الحكومة كمركزٍ للقرار السياسي مهما كلّف الأمر لأن من شأن ذلك إفقاده القدرة على الإمساك بمفاصل إدارة السلطة من جهة، ونظراً لما يشكّله هذا التطور من هزيمة له في نظر الأميركيين، ولأنه ينطوي على رسالة يمكن أن تتلقّفها انتفاضةُ بغداد.
* ثمة ميْل لدى «حزب الله» وفريق عون لعدم التضحية بالوزير جبران باسيل، كونه يشكّل خط الدفاع الأول عن العهد.
وفي غمرة هذا «التوازن السلبي» بين اللاعبين المحليين، وعشية «احد الإصرار»، لم يكن ممكناً التكهن بمآل سيناريوات الساعات المقبلة في ضوء أمريْن: الأوّل صعوبة المهمة التي سيقوم بها الموفد الفرنسي كريستوف فارنو في بيروت في اليومين المقبلين في إطار مسعى لتقصير فترة «الوقت الضائع الثمين» وتفادي الاحتمالات الأسوأ مالياً واقتصادياً.
والثاني عدم استبعاد أن يعطي الحريري في وقت غير بعيد جواباً عما إذا كان سيعطي المزيد من الفرص للتفاهم على الحكومة الجديدة وفق تصوره، وخصوصاً بعد الشكوك في إمكان «النفاذ» بالحل الوسط الممكن والمتمثل في الحكومة التكنو - سياسية وذلك بعدما أقفل الحزب التقدمي الاشتراكي (بزعامة وليد جنبلاط) الباب أمام أي مشاركة فيها، وهو الموقف نفسه لحزب «القوات اللبنانية».
ويأتي هذا التعثّر على وقع «ربْط الأحزمة» في ملاقاة المسار الانحداري الحاد في الواقع المالي - الاقتصادي، وسط مؤشراتٍ مُرْبكة تفاقمتْ يوم الجمعة وكان محورها في شكل رئيسي القطاع المصرفي الذي باشر منذ معاودة فتْح أبوابه بعد الإقفال الاضطراري - الاحتوائي في بداية الأسبوعين الأولين من الثورة بتطبيق إجراءات قاسية لجهة تقييد عمليات السحب وخصوصاً بالدولار الأميركي والتحويل إلى العملة الصعبة ومن لبنان إلى الخارج.
وعلى وهْج مَشهد طوابير اللبنانيين الذين اصطفّوا أمام بعض المصارف التي شهدت تهافتاً على سحب الأموال، وتردّداتِ أشرطةٍ مصوّرة لإشكالاتٍ على كونتوارات بنوك مع زبائن غاضبين بلغت في إحدى الحالات وقوع تضارُب بين مدير فرعٍ وزبونٍ في موازاة تقارير عن عملاء دخلوا بنوكاً وهم يحملون أسلحة، بدا أن السلطة السياسية تحاول معالجة مشكلةٍ بدأتْ «تفلت من السيطرة» وتستولد اضطراباتِ كانت لاحت مؤشراتها منذ ما قبل ثورة 17 اكتوبر نتيجة شحّ الدولار وبروز سعريْن له، واحد رسمي بات «شبه نظري» هو نحو 1510 ليرات وسعر «حقيقي» (لدى الصيارفة) تجاوز في الساعات الماضية 1800 ليرة.
ولم يكن ممكناً «كتْمُ صوتِ» الأزمات المتدحرجة التي لاحت من خلف إجراءات «التقنين غير المسبوق» في المصارف ولا سيما تقليص التسهيلات للشركات وتحديد سقوف الحدّ الأقصى للسحْب الأسبوعي نقداً (بالدولار وبالليرة ولم يتجاوز بعضها بالعملة الصعبة 1500 دولار) وصولاً إلى وقْف بنوكٍ أي سحوبات بالدولار أو تحويل أموال إلى الخارج لتلبية طلبات الاستيراد وخفض سقف بطاقات الائتمان.
وفيما تركّزتْ هذه الأزمات في قطاع المحروقات التي بدأ مخزونها بالنفاذ وعلى مستوى استيراد الكثير من السلع ومنها الأجهزة والأدوات الطبية وهو ما دفع المستشفيات الخاصة لإعلان إضراب تحذيري الجمعة المقبل، ناهيك عن «كرة ثلج» ارتفاع أسعار مختلف السلع، برزت محاولاتٌ لكبْح انزلاقِ البلاد «وبلا مكابح» نحو مفترق بالغ الخطورة يمكن أن يفجّر توترات اجتماعية وحتى أمنية.
وإذ كان رئيس اتحاد نقابات موظفي المصارف جورج الحاج يلوّح بإمكان الدخول في إضراب بعد انتهاء عطلة عيد المولد النبوي الشريف (تستمر حتى الثلاثاء) حرْصاً على سلامة الموظفين، شخصتْ الأنظار الى الاجتماع الذي عُقد أمس في القصر الجمهوري بدعوة من عون وحضره وزيرا المال والاقتصاد وحاكم مصرف لبنان وجمعية المصارف وخُصص لمناقشة سبل ترييح السوق وتخفيف الهلع بين المواطنين الذي لجمتْه عطلة العيد.
وفيما استبقت اللقاء أجواء عن أن المصارف تريد حكومة سريعاً للمساعدة بإحداث صدمة الثقة المطلوبة في موازاة إصرار فريق عون على ضرورة تأمين السيولة بأسرع وقت، فإنّ الأوساط المطلعة لم تعلّق آمالاً كبيرة على إمكان عزْل الواقع المالي عن المأزق الحكومي، وهو ما عبّر عنه بوضوح تكرار البنك الدولي حضّه لبنان على تشكيل حكومة في غضون أسبوع محذراً من أخطار جدية على الاستقرار جراء الأزمة المالية والاقتصادية، وذلك في موازاة إشاراتٍ متزايدة إلى تَضَخُّم الصعوبات التي يواجهها القطاع التجاري والصناعي وتسجيل عمليات صرْف لموظفين وتقارير عن استعدادات 7 شركات فندقية لإقفال المطاعم فيها مع تلويح الهيئات الاقتصادية بإضراب وشيك.