البغدادي... سكوت سنصوّر!

1 يناير 1970 07:34 م

يصرخ المُخْرِجُ طالباً من الثرثارين في أماكن التصوير أن يهدأوا قليلاً ويركّزوا على حفظ النصوص كي تكون المَشاهد واقعية. لكن هيهات لمَن دخل هذا الاستديو المترامي الأطراف العابر للحدود أن يهدأ وهو يُراقِبُ التحولات في أضخم إنتاجٍ سياسي - أمني عَرَفه المَشْرِق.
المُخْرِجُ مِن أذكى وأخْبث مَن تعاطوا مع المنطقة وجمهورها. لا يهمّه عدد مُشاهِدي فيلمه بل عدد المُشارِكين فيه وعدد المتأثرين بشيْطنته لحِراكهم. قبل دراسته للإنتاج، تَخَرَّجَ أخصائي مختبرات. يعرف كيف يخصّبُ بالنفَس الطويل بعض التجارب تماماً كما يحيك فنّانو السجاد بضاعتهم.
لا يوجد في قاموس هذا المُخْرِج شيء اسمه صدفة، فكل شيء بالنسبة إليه خاضِعٌ لقانون المُنافَسة. أن يخْرج الناسُ مُطالِبين بتغيير المَشْهَدِ الجاثم على صدورهم لعقودٍ فهو محاولةُ تطويقٍ له ولعمله ولا بدّ أن يردّ بعملٍ كبير يخلّد اسمَه في تاريخ الإنتاج. الأرضُ مَجانيةٌ والأبطال جاهِزون والأهمّ منهم الكومبارس، فحيثما يوجد بطل يوجد كومبارس، وخصوصاً في منطقةٍ متخلّفة لا صوت يعلو فيها على صوت التطرف الطائفي والمذهبي. فالفتنُ تم تخصيبُها وتجريبُها عندنا، قبل أن يعطي المخرج القادم من عالم المختبرات الكرةَ الأرضية كلّها درساً في احترافية توظيفها وتوجيهها.
النصُ جاهزٌ، المَشاهِد، أماكن التصوير. ليَخْرج إذاً الأبطال الذين تم إعدادهم لمواجهة «الكفَرة» السوفيات سابقاً والأميركيين لاحقاً من السجون، ولتتحوّل قضية انتفاضات الناس وتوْقها الى حرْق أفلام الرعب قضيةَ تَطَرُّفٍ وإرهاب. أما الكومبارس فيدرك المُخْرِجُ أن المتطوعين سيتوافدون بحُكْم ثقافتهم وتَخَلُّفِهم مجاناً للمشاركة متى ما فُتح الباب لهم. إذا عاشوا في الفيلم ربح رهانَه وإن ماتوا حقق أكبر رقم من الأرباح.
المفارقةُ الأكبر في ما يتعلق بالفكرة ونصها ومَشاهِدها أن المُخْرِجَ حصل على تمويلٍ غير مسبوق من الشيطان الأميركي الذي يدّعي أنه حرّك الناس ضده، ومن الروس الذين عاش أسلافُهم الهزيمةَ في أفغانستان، ومن دول أوروبا التي رأت خطراً يتهدّدها. وكي يجذب المُخْرِجُ هؤلاء كلهم الى مُساعَدَتِه في الإنتاج أرسل لهم «إعلانات» نارية (تريلر) لعرْضها في ساحاتهم وشوارعهم تضمّنتْ «تجارب حية» عن الثمن الذي يمكن أن يدفعوه في حال رَفَضوا.
اكتمل النص والحوار والسيناريو ومَشاهِد التصوير. يطلب المُخْرِجُ من مُساعِدِه أن يعيد تأهيل «الأبطال» الذين وفدوا من تورا بورا ويحسن وفادتهم ويؤمّن لهم طيب الإقامة والحماية. «كلاكيت أول مرة»... تدور الكاميرا حول حوارٍ مع مسؤولين أميركيين خلاصته: «سلِّمونا ما عندكم» ثم تُرَكِّزُ العدساتُ على ورقة مَطالب طويلة يقرأها الأميركيون ويدركون أنهم دخلوا كهوف أفغانستان ومَغاور المفاوضات.
يتقدم أبو مصعب الزرقاوي فيبلي بلاء حسناً ويُعْجَبُ المُخْرِجُ بأدائه رغم حداثة تعاطيه مع الكاميرا. يقود مَشاهِد ضرْب المارينز في العراق مع ما تتطلّبه من ضحايا تشمل الأطفال والنساء والعجزة والتلامذة... مصلحة الإنتاج تبرّر المحظورات. لم تُعْجِب الأميركي هذه العروض التصويرية وخصوصاً أنه يعشق التصوير. يُرْسِلُ إلى المُخْرِج مَن يفاوضه ثم يخرج باتفاقٍ مرحلي: أسلّمكَ البطل وسلِّمونا المزيد من أماكن التصوير والتمويل.
كلاكيت ثاني مرة... الزرقاوي قتيلاً.
يأتي عاشق الفن السابع والفلسفة والتاريخ إلى البيت البيض ويبدي إعجاباً غير مسبوق بخلفية المُخْرِج وثقافته وحضارته، يبارك باراك ورقة المَطالب. يخرج بعض أبطال تورا بورا من مكان إقامتهم قرب استديوات المُخْرِج الى باكستان وغيرها. يُخْلي مسؤوليته عنهم.
كلاكيت ثالث مرة... بن لادن قتيلاً.
تتوالى المَشاهد وتتمدّد مراكز التصوير ويتوالى «اصطياد» أرباب الصفين الثاني والثالث من قبل المُنْتِج الأميركي. وكلما احتاج المُخْرِجُ الى ممثلين يطلبُ من وكلائه الخارجيين التصرّف. ينفتح سجن المكلا في اليمن مثلاً ويخْرج الآلاف بين ليلة وضحاها.
في سورية اختلف الوضع، ضاق صدرُ المُخْرِج. اتّصل بمدير الموقع في الشام وأمره بإطلاق مَن في السجون وحذّره من أن التنفيذ يجب ألا تشوبه أخطاء كالتي واكبتْ إرسال شاكر العبسي سابقاً إلى لبنان والأداء السخيف الذي ظَهَرَ به وكاد يُقتل خلال التصوير لولا إنقاذه في اللحظة الأخيرة.
كلاكيت رابع مرة... الجولاني أميراً.
يتردّد الأميركي في تنفيذ وعوده ويعتقد المُخْرِجُ أنه يماطل ويكسب الوقت كي يتقدّم بمشروعٍ إنتاجي آخَر على الأرض. يتصل بمدير «اللوكيشن» في العراق.
كلاكيت خامس مرة... البغدادي خليفة.
كلاكيت سادس مرة... «داعش» هاجِس العالم.
كلاكيت سابع مرة... المُنْتِجُ يحاول خَنْقَ المُخْرِج.
كلاكيت ثامن مرة... المُخْرِجُ يردّ على المُنْتِج في أماكن لم يتوقّعها.
كلاكيت تاسع مرة... المُنْتِج يسعى لكسْب ودّ المُخْرِج بطريقة أو بأخرى ويتغاضى عن مجازر الأنظمة وجرائمها لأن محاربة «داعش» أولوية.
كلاكيت عاشر مرة... البغدادي قتيلاً.
«سكوت... سنصوّر». يصرخ المُخْرِجُ مجدداً حاملاً مكبّر الصوت أمام «لوكيشن» مختلف يعتقد أن مشاريع أخرى في طريقها إلى التبلور ضدّ مشروعه.
«أكشن». تبدأ مَشاهد القنّاصة ودهْس المتظاهرين في العراق... أما لفيلم الرعب من نهاية؟