في ليلة الميلاد من العام 2006، كنت أجالس معلمي كمال صليبي في انتظار وصول ضيوفه على العشاء الذي كان يقيمه سنوياً لأصدقائه وتلاميذه في بيته، الذي كان يتحول إلى صورة عن لبنان بمختلف عائلاته وجماعاته.
في ذلك الوقت كان لبنان يمر بفترة عصيبة مع قيام قوى الثامن من آذار باحتلال وسط المدينة، محدثين شللاً حكومياً وسياسياً حادّاً. آنذاك، نظر إلي صليبي وقال بصوته الرقيق المنخفض خلف ابتسامته: «أنظر إلى هذا الشعب اللبناني العظيم، رغم كل الصعوبات لا يزال يحتفل بالأعياد وبالحياة بمختلف طوائفه، إنه لشعب وبلد عظيم».
انتفاضة الشعب اللبناني الحالية في وجه النظام الطائفي والطبقة السياسية الفاسدة، يعيد إلى ذاكرتي كلام معلمي ولا سيما حين أتنقل بين ساحتي رياض الصلح و الشهداء، وأشاهد الجماهير المتدفقة إلى الساحات في أنحاء لبنان كافة وفي بلاد الانتشار أيضاً من أجل بلد قابل للحياة. لا أزال أحاول أن أفسر هذا السيل البشري العارم والغضب، الذي يرافق صيحات اللبنانيين المطالبين برحيل الطبقة السياسية الحاكمة والتي وفق العديد من المراقبين تتحكم بالطوائف كافة بقبضة من حديد.
«كلهم يعني كلهم»، شعار بسيط وواضح نجح في جمع مناصري «حزب الله» ومناصري حراس الأرز و«الجماعة الإسلامية» تحت مطلب واحد، وهو إقامة دولة حديثة قادرة على حماية حقوقهم ومستقبل أولادهم. البعض يعتبر أن الغضب الشعبي هو نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية، وهي مقاربة تسخّف هذا المشهد السياسي والشعبي العارم. فالمتظاهرون لم يتفاعلوا مع الطروحات الإصلاحية لحكومة سعد الحريري، والتي تمثل رشوة جديدة في محاولة لتنفيس غضبهم وإقناعهم بإخلاء الساحات.
إن المسألة أكثر تعقيداً من قضية انهيار اقتصادي. فالشعب اللبناني الذي صوّت لهذه الطبقة الحاكمة خلال الانتخابات النيابية المنصرمة استفاق على حقيقية واحدة، ونظام المحاصصة الطائفية والزبائنية السياسية لم يعد يصلح في العصر الحالي. فلدى استفتائي تلاميذي في الجامعة الأميركية - منهم من لا يتكلم العربية- أكدوا جميعهم على أن الإصلاح لا يمكن أن يحصل في ظل نظام طائفي تستخدمه الطبقة السياسية لتقسيم المجتمع إلى طوائف وجماعات، ولذلك فإن وقت رحيلهم قد حان.
لعل من أهم مظاهر الانتفاضة هي عدم مركزية أو حتى فيديرالية تلك التظاهرات وعدم وجود قيادة واحدة لحراك تشارك فيه جماعات و جمعيات مدنية عدة، أو وجه تستطيع الطبقة السياسية أن تحاوره أو حتى تستميله إلى صفها. لبنان كله انتفض، والحشود المليونية لم تُجيش من قبل ماكينات حزبية وسفارات أجنبية كما يروج لها البعض، بل انتفضت بسبب إيمان عميق منها بأن البقاء في هذا المركب الطائفي هو قرار غبي وانتحار جماعي.
المرحلة المقبلة دقيقة وخطيرة، فالنظام طائفي والساسة اللبنانيون يملكون الخبرة والموارد المالية لإقامة ثورة مضادة في وجه الانتفاضة الحالية. لذلك يجب على الغاضبين أن يحولوا غضبهم إلى مطلب واضح، وهو حكومة انتقالية تطبق الدستور اللبناني ولا سيما المادة 95، وتلغي النظام الطائفي الذي يمنع الإصلاح الفعلي ويحرم الشعب اللبناني من حقه بالمواطنة.
خطاب الحريري الأخير بعد انتهاء اجتماع مجلس الوزراء خير دليل على انفصال الطبقة السياسية عن ما يجري على أرض الواقع. زمن الإصلاح الاقتصادي قد ولى و آن أوان المحاسبة، محاسبة اناس تستخف بعقول البشر و لا تحمي لا الحجر و لا البشر.
خلاص لبنان لن يأتي عبر ورقة إصلاحية تصلح أن ترمى مع كاتبها في سلة المهملات، بل من خلال قرار شعبي وداخلي يشارك فيه كل مواطن، بأن يكون مستقبلنا من صناعة أيدينا و ليس قدراً فرض علينا من قبل ظالم، ولربما يصبح لبنان -كما يقول معلمي كمال صليبي- بيت بمنازل كثيرة، بيت يسوده حكم القانون قادر على حماية أبنائه من الطبقة الحاكمة، ومن أنفسهم إذا اقتضت الحاجة.