ثمة كويتيون غادروا وكويتيون لم يغادروا، ولكن جميعهم بدوا وكأنهم في حيرة من أمرهم... هل يفرحون أم يحزنون وهم يشاهدون بأمّ العين ساحاتٍ تشتعل غضباً لأنها تريد لبنان كما كان، وربما يردّدون في سرّهم وهم يعْبرون الطريق الصعب إلى المطار أو يعانِدون للبقاء في الأعالي الجبلية، أما آن لهذا المخاض اللبناني أن ينتهي؟
حكاية الكويتيين ولبنان تشبه «أساطير الحب»، فرغم التحذيرات المتوالية على مرّ الظروف القاهرة والتي لم ترحم لبنان، كان الكويتيون وعلى الدوام آخر المغادِرين وأول الواصلين، وغالباً ما كانوا «يغامرون» بالمجيء إلى «بيتهم الثاني»، ولسان حالهم «الكويت ولبنان على الحُلوة والمُرّة».
ورغم أن أعداداً من الرعايا الكويتيين حزمت حقائبها على عجل انسجاماً مع «إرشادات» السفارة في بيروت، لكنهم يدركون أن ما يجري من «تطور» في الشارع اللبناني حدَث ويمرّ، على ضخامته، فهم أَلِفوا لبنان منذ الستينات، بأيامه البيض والسود، بفرحه وويلاته، وأحبوه لأنه... هكذا لبنان. ومنذ اللحظة الأولى لخروج طوفان الناس إلى ساحات بيروت و«أخواتها» من المدن المترامية على امتداد خريطة الغضب الشعبي، أدركت السفارة الكويتية أن حجم ما يحدث قد يؤدي إلى اضطرابات، فدعت الكويتيين الراغبين بالمجيء إلى التريث والموجودين إلى اتخاذ أقصى درجات الحيطة، ونشرتْ رقم هاتف لـ «الطوارئ»، ثم قامت بإجلاء مَن يرغب وتسهيل سفرهم إلى الكويت.
وبكثير من الدراية أدار السفير عبد العال القناعي عملية إجلاء مَن رغب من المواطنين الكويتيين في إطار خطة طوارئ بالتعاون مع السلطات اللبنانية، وهي تمت بنجاحٍ استحقّ تنويه المغادرين بجهود السفارة، وخصوصاً أن إنجاز العملية لم يكن أمراً سهلاً بعدما قُطعتْ طريق المطار وتقطّعت أوصال المناطق بالإطارات المشتعلة والعوائق الأسمنتية والحديد وسط مظاهر فوضوية في بعض الأمكنة.
وكالعادة كانت الأنظار على بحمدون «عاصمة الكويتيين»، لتقصّي أحوال الموجودين منهم والوقوف على «مقاربتهم» لأهوال اللحظة التي دهمت لبنان، واستطلاع «سرّ» بقائهم رغم كل ما يجري في البلاد التي بدا وكأنها دخلت مرحلة من «انعدام الجاذبية»، وهي المهدَّدة أساساً بفقدان الجاذبية كوجهةٍ سياحية.
الطريق إلى بحمدون كانت سالكة، رغم أن كل شيء كان يوحي بأن جذوة «الانتفاضة» لم تنطفئ، فالإطارات المتفحّمة نأت جانباً إفساحاً للسيارات والحجارة التي استُخدمت لقطع الطريق كأنها أدارت ظهرها في استراحةٍ حتى إشعار آخر... هكذا كانت الحال على مفرق عاليه وعلى تخوم بعلشميه وفي أمكنة عدة في الطريق صعوداً. أما نزولاً في طريق العودة، فمسألة أخرى.
يطل المرء على بحمدون، التي غالباً ما كانت تفاخر بأنها «ضيعة الكويتيين» الذين جعلوا منها «أميرة الجبل» ولشدّة تعلقهم بها، فتجد هذه البلدة وكأنها نكّست فرحها... شاحبة حزينة وتكاد أن تكون مقفرة، فمَن جاء من الكويتيين غادر بعدما غدر الحادث الأمني في قبرشمون (قبل أشهر قليلة) بالموسم السياحي في لبنان، ومَن بقي يجد نفسه الآن وجهاً لوجه مع اختبار جديد من «الاضطراب» في بلاد الأرز.
سعينا لملاقاة مَن بقي من الكويتيين في بحمدون، جلْنا في البلدة ذهاباً وإياباً، مراراً وتكراراً من دون أن ننجح، عرّجنا على المقاهي الخاوية والمحال الحزينة نسأل فكان الجواب الوحيد أنه لم يبقَ من المصطافين الكويتيين في بحمدون سوى قلة قليلة بعدما بدأ العام الدراسي في الكويت ونتيجة الأوضاع غير المريحة في لبنان.
لم نكلّ أو نملّ وأسعفتنا مصادفة حين التقينا بثلاثة من الإخوة الكويتيين في سيارة واحدة، فسارعنا إلى «التقاط الفرصة» وكانت حكايتهم معبّرة عن هذا التماهي الكويتي - اللبناني في لعبة جميلة اسمها «السراء والضراء».
فوزي الوقيان، الذي يداوم على حب لبنان منذ الستينات، يوم كان يأتي طفلاً مع والده، قال إنه وصل مع رفاقه يوم الأربعاء ويعتزمون المغادرة غداً الإثنين، وهو غير نادم على المجيء الذي صودف مع انفجار الاحتجاجات في لبنان، لكنه يتمنى أن تكون الطريق إلى المطار آمنة وغير مقفلة.
وكما كل اللبنانيين يحدثك الوقيان بـ «سرور» عن أن الطريق إلى عاليه فتحت أمس، «وها نحن نتجوّل في المنطقة في هذا الصباح الجميل الذي تعوّدناه على مر السنين هنا في بحمدون».
أما محمد العبيدي فلم يشأ إلا أن يعلن حبه للبنان «كيفما كان»، متمنياً لـ«هذه البلاد التي لا تستحق إلا الخير، أن تنعم بالأمن والاستقرار»، كاشفاً أنه رغم الضوضاء والتظاهرات «ذهبنا أمس (الجمعة) إلى الصيد وجلْنا في المنطقة، زرنا قرنايل وحمانا... ما كان في شي».
ويروي خالد الربيعان كيف أمضوا ثلاث ساعات في الطريق من بيروت إلى بحمدون ليل الخميس - الجمعة «سهرنا في بيروت ولدى عودتنا إلى بحمدون كانت الطرق قد قطعت، فاستغرق مشوارنا ثلاث ساعات».
وبعدما أخذ العبيدي الحديث قال: «لم نتعرّض لأي مضايقات على الطريق، بالعكس كان الجميع يسهل مرورنا بمنتهى الاحترام»، مضيفاً «ما يجري من احتجاج سلمي مئة في المئة».
ويعاود الوقيان التأكيد على ارتباطه ببحمدون التي له فيها الكثير من ذكريات الطفولة، وهو ما زال يحفظ عن ظهر قلب أسماء أشخاص في البلدة تعرّف إليهم يوم كان في الخامسة عشرة من عمره، للدلالة على المكانة التي تحتلها بحمدون، وتالياً للبنان في قلوب الكويتيين. ... ودّعنا بحمدون وفي طريق العودة كانت الطرق الرئيسة قد أُقفلت، والوصول الى بيروت كان يحتاج إلى «دليل» عارِفٍ بخرائط المنطقة وطرقها المختصرة.