... على تخومِ بحرِ بيروت تدورُ أحداثُ حكايةٍ كأنها "أسطورة". لم يكن لبنان كان قبل 153 عاماً حين أَفْرَجَ الرملُ أساريرَه بوصولِ زائرٍ من عالمٍ بعيدٍ على سفينةٍ شراعيةٍ عانَدَتْ طويلاً الأنواءَ في طريقِها إلى ... أول الحكاية.
إنه دانيال بلس، الآتي من الولايات المتحدة إلى بلادٍ جميلةٍ لم يكُن غزاها الإسمنت... قَصَدَ الجبلَ لكن عيْنَه كانت على بيروت، أما حلمُه الذي صار إسمه "الجامعة الأميركية" فبدأ بغرفةٍ مستأجَرةٍ و16 طالباً قبل أن تكرّ سبحةُ الحكاية.
غرفةً غرفةً ومبنى مبنى شُيِّدَتْ الجامعةُ في منطقةٍ كانت خاويةً قبل أن يرتفع معها وحوْلها "رأس بيروت"، الحيّ الأكثر شهرة في مدينةٍ تَمَدَّدَتْ كأنها تحتضن "الأميركية" برموشِ البحر ِوجباهٍ تطلّ عليها من صنين.
... وَمَضَتْ مسيرةُ الصرحِ العلمي الذي أصاب وهجُه المنطقةَ العربيةَ برمّتها، وبدتْ سيرتُه كأنها "ألف حكاية وحكاية" على أَلْسِنَةِ نحو 70 ألف خرّيجٍ من سفراء للعلمِ والقيادة والتفوّق والريادة.
قبل ثلاثة أعوام احتفلتْ "الأميركية" بمرور قرن ونصف قرن من الزمن على أوّل الحلم، وكأنها ما زالت في أوّل الطريق ... تُجَدِّدُ، تَتَوَسَّعُ، وتَعْتَلي إلى المرتبة خمسين في قائمةِ أهمّ جامعات العالم المترامي، وكواحدةٍ من منصاتِ التفوّق العلمي.
احتفاليةُ الجامعةِ إزدادتْ تَوَهُّجاً في تَزامُنها مع حَدَثٍ كان الأوّل في حكايتها المديدة، وتجلّى في تعيين الدكتور فضلو خوري كأوّل لبناني رئيساً لـ "جمهورية بلس" المسكونةِ بعلوم وأبحاث وإنسانيات، وبأساتذة وطلاب وإداريين و... أحلام.
فضلو خوري، الرئيس السادس عشر للجامعة الأميركية، مُمْسِكٌ بـ"مجدين"، لبناني وأميركي، ويقيم الآن بين ولايتيْن، واحدةٌ بدأتْ في سبتمبر 2015 ولم تنتهِ معها ورشةُ الإنجازات، وواحدةٌ تطلّ في سبتمبر 2020 على مزيد من الأحلام.
عشية زيارته للكويت التقتْ "الراي" الرئيس فضلو خوري في حوارٍ جَمَعَ بين الأكاديمي والفكري وما يُشْبِه السياسي، وفي ما يأتي نصه:
ما الذي يجعل مَن هم داخل أسوار الجامعة الأميركية كأنهم لا يُشْبِهون مَن هم خارجها من حيث سلّم القِيَم المرتبط بالحوار والعنف والإعتراف بالآخَر والتطرّف وما شابه ... هل ثمة غرْبالٌ نُخْبوي أم ماذا؟
مَن هم داخل الجامعة لا يختلفون عمن هم خارجها إلا بمقدارِ قدرتهم على التعبير عن ذاتهم من دون أي شعورٍ بأن شيئاً سلبياً يمكن أن يحدث في إختبار ذواتهم أو أي قضايا عامة. فالمسألة ترتبط بالكفاح الدائم لإرساء مناخٍ انفتاحي يحفّز على الثقة بالنفس ويعزّز أجواء الحرية والحوار والتسامح.
ربما تصبح هذه الفكرة أكثر وضوحاً إذا عرضتُ ما حدث مع يو يو ما (Yo-Yo Ma)، وهو عازف الـ "تشيللو" الأشهر في العالم وفي التاريخ أيضاً. فخلال مشاركته في مهرجانات بيبلوس الدولية (جبيل) أخيراً حَدَثَ ما لم يكن في الحسبان. فبعدما أنهى عزف ثلاث مقطوعات من أصل ست، غادَرَ نحو مئة شخص الحفل في ظاهرةٍ ربما ترتبط بنزعةِ بعض اللبنانيين في أيامنا هذه وميْلهم للإكتفاء بالتقاط الصور وأخذ الـ "selfie" والمغادرة.
وأي فنان آخَر، وبمستوى نجوميّة أقلّ من يو يو ما، لَكان شعر بالإهانة وأدار ظهره مُغادِراً، لكنه لم يفعل ذلك بالتأكيد بل ابتسم وأكمل، هذا الواثق بنفسه وفنّه وحفله ... علينا أن نتعلّم من هذا الإنسان أنه ينبغي أن لا نجلد أنفسنا إذا تعرّضنا لإساءاتٍ من سوانا لأي سبب، فمن المهم أن لا تتزعزع ثقتنا بأنفسنا، فالإيمان بالنفس هو ما نهديه لطلابنا. وعندما نفشل سنواجه أنفسنا بعتب كبير، ولذا نحن نعمل على الدوام من أجل أن تكون الجامعة عبارة عن مجتمع مؤمن بنفسه وبغيره أيضاً ومؤمن بحقه وبحق سواه في أن يخطئ، وعندما تتجاوز المحاسبة على الخطأ حدود النقد والمراجعة وتأخذ أشكال الشِدّة والعدائية تكون رسالتُنا في الجامعة مُنيت بالفشل، فرسالة الجامعة تحوّلت من تبشيرية دينية إلى تبشيرية إنسانية، أي محورها الإنسان.
هل ثمة تحديات في إدارة التنوّع الذي تشكّله الحاضنة الجامعية في ظل بيئةٍ مختلَطة وأفكار ليبرالية؟
من الطبيعي مواجهة تحديات في تشجيع المناخ الليبرالي في بيئة مختلطة، وفي تشكيل حاضنة للتنوع الذي يميّز لبنان ... رغم أن الولايات المتحدة هي بلاد المُهاجِرين، فإنه لو قيل إن هناك في مكانٍ ما في العالم ولاية من أربعة ملايين مواطن (لبنان) يتوزّعون على 18 طائفة لَشَعَرَ المرء بأن الأمر "خياليّ"، لكن هذه هي حقيقة لبنان وجامعته "الأميركية" التي تحتضن طلاباً من 92 بلداً، لبنان واحد منها.
المسألةُ المرتبطة بإشكالية العلاقة بين الليبرالية وإدارة التنوّع تعود في جانبٍ منها إلى أنه في لبنان، الذي عانى حرباً إمتدّت على مدى عقد ونصف عقد من الزمن، قرّروا طمْر موروثات الحرب وتجاربها من دون دراستها وأخْذ العِبَر منها، وهذا أمرٌ سلبي وغير طبيعي، لأنهم طمروا، وربما مع الأسلحة، ما كان يفترض أن يكون خلاصات عن تجربة الحرب، وتالياً ما من شيء جرى حلّه والشفاء منه. والذين كانوا يأتون الى لبنان عادوا لأنه البلد الجميل والمتنوّع الذي أحبوه، ولكنهم يشعرون بشيءٍ من التحفّظ لم يكن موجوداً قبل الحرب، والسبب أن موروثات الحرب ما زالت كامنةً ولم تَجْرِ مناقشتُها ومُعالَجَتُها.
وفي سياق ما نسمّيه الـ acculturation (التثاقُف)، أذكر مثالاً على ذلك. فالآباء اليسوعيون الذين ذهبوا من أوروبا إلى اليابان كانوا برتغاليين وإيطاليين في الإجمال، وبعدما عاشوا هناك عهداً وراء عهد تجذّرت أفكار اليابان في تعليمهم اليسوعي وما عادوا يسوعيين برتغاليين وايطاليين. وهكذا أيضاً الجامعة الأميركية التي ترسّخت في العالم العربي ولا سيما في لبنان، فإنها شهدت تغييراً يعود إلى أن جذورها التي امتدّت في الأرض تمتصّ المياه الصافية والجميلة، وأعني التفكير الليبرالي والتنوّع، لا الطائفية والمحاصصة والكراهية، ونحن حريصون على العناية الدائمة بهذه الجذور والسهر على رسالة الجامعة القائمة على إحترام التنوع والتفكير الحر.
غالباً ما تُفاخِر الجامعة بالمستوى الأكاديمي للطلاب ... هل تعتقد أن هذا الأمر كافٍ لبناء جيل مُنْتِج أم أن تطوير الحسّ النقْدي من شأنه تعزيز الروح القيادية للخرّيجين؟
طبعاً المستوى الأكاديمي المرموق غير كافٍ. ولو كنا مجرّد جامعة تعليم وتكنوقراطية من دون أهداف أخرى تشكّل سبباً لوجودنا، لاكتفينا بهذا الإمتياز الإكاديمي. لكن لأن رسالتَنا تنطوي على تحفيز النقد والتفكير وعلى عدم التسليم بما يتم التعاطي معه على أنه حقائق لا يستوي معها الشكّ كطريقٍ لإثبات حقيقتها، فإن النقدَ يوازي في أهميته التميّز الأكاديمي لأن هذه المزاوجة تشكل جوهر رسالة الجامعة التي تهدف إلى تخريج روّاد على مستوى المجتمع وميادينه المختلفة كالطب والسياسة والهندسة والتاريخ والزراعة والنفط وسواهم.
ثمة ظواهر مُقْلِقَة لم تعد حكراً على لبنان والعالم العربي، إنما تكاد أن تغزو العالم كالشعبوية والعنصرية ومغادرة القِيَم العريقة ... هل ثمة هزيمة لمفاهيم مثل الديموقراطية والليبرالية التي شكّلت رافعةً للحداثة والتنوير والنهْضوية؟
أكثر الحروب المدمّرة والقاتلة في تاريخ الإنسان في آخر 2000 عام بدأت في أوروبا التي سبّبت الحربين العالميتين الأولى والثانية وكانت ساحتمها الأهمّ، وتالياً تعلّمت أوروبا الدرس من الشعبوية العرْقية وصارت أكثر مناعة بوجهها على مرّ العقود، من العام 1945 وحتى العام 1992 يوم أصدر الكاتب الشهير فرانسيس فوكوياما مؤلَّفه "نهاية التاريخ"، واعتبر فيه أن تاريخ الاضطهاد والنظام الشمولي إنتهى مع سقوط الوحشية في البلقان وانتزاع الأكثرية في جنوب أفريقيا حريّتها، وإنتصار قِيَم الإنفتاح والديموقراطية بين الشعوب.
اليوم، رئيس الولايات المتحدة، رئيس الوزراء البريطاني، ورئيس المجر يستعملون كلاماً شعْبوياً ومتعصّباً (كلمة على الطريقة اللبنانية) يخجل غالبية الساسة اللبنانيين والعرب من استخدامه، فهذا مرَض عالمي بدأت ملامح تلاشيه تظهر في الشرق والغرب مع فشل التفكير بأن هناك إنساناً أفضل من إنسان لأسباب جينيّة أو دينيّة أو ما شابه. إنها نظريةٌ تُلَمْلِمُ فشلّها الآن في الولايات المتحدة لأن "الأعجوبة الاقتصادية" التي روّج لها الرئيس الأميركي مصابة بالتعثر، وحديث رئيس المجر انكشف على كذِبٍ وكذلك الحال لرئيس بولونيا وسواه. والمؤسف في العالم العربي أننا نتطلّع إلى أوروبا وأميركا كأنهما تملكان كل الحلول ولا تعانيان من مشكلات.
إنني متفائل لأنني عندما أرى الأستاذة المتفوّقة التي تهتمّ بعائلتها وزوجها وأولادها، وبأهلها وبأهل زوجها، أُدْرِكُ أن الحضارة العربية التي يشكل واحدة من سماتها هذا الاحتضان للعائلة والمجتمع ما زالت حية، وعلينا تعليمها وعدم خسارتها، تماماً كما نعلّم الأفكار الليبرالية التي وُلدت من التجربة الأوروبية والتي كان نابليون بونابرت أبرز أنصارها في القرن التاسع عشر ... في اعتقادي أن الأمور عائدة إلى الأحسن.
مفارقةٌ لافتة رافَقَتْ تَسَلُّمكم رئاسة الجامعة كأوّل لبناني على مدى تاريخها العريق، وهي تَعَرُّضكم الدائم لحملاتٍ إعلامية والتعاطي مع الجامعة كأنها بيتٌ لمؤامرةٍ أميركية ... لماذا؟
بصراحة لا أعرف جميع الأسباب. أعرف بعضها، وربما أبرزها أنني لبناني وأميركي، وهي نظرةٌ تنمّ عن التعاطي مع الآخر وكأنه على مستوى أعلى، وهذه نظرة موجودة في لبنان والعالم العربي، ولها ترجمات عدة كإعطاء الأفضلية للماركات الأجنبية، ما حرم لبنان وعلى نحو مأسوي مثلاً من وجود صناعة وطنية، وهكذا هو الحال في العالم العربي أيضاً. ربما لم يَرُقْ للبعض في "الهلال الخصيب" أن يكون رئيس الجامعة يجْمع في شخصه خاصتين كلبناني وأميركي، فأزعجهم الأمر.
ولم يكن بعيداً عن هذه الحملات المستوى المتدني لبعض الصحافة. في الماضي كنتَ تقرأ لشخصٍ يهاجمك بطريقةٍ أقرب إلى الشعر والأدب أو ما يسمى الهجاء والمدح في معرض الذم، ولم يكن يسعك إلا أن تشكره على رقيّه رغم اختلافك معه على المضمون. اليوم، إذا استثنينا ثلاث أو أربع صحف (في لبنان)، نلاحظ أن المستوى مصاب بالتدني وهو أمر لا يليق لا بالصحافة ولا بلبنان.
والواضح أيضاً أننا إتخذنا قرارات لم تكن سهلة. أعدْنا العملَ بـ "التثبيت"، وعملنا على الحد من ارتفاع الأقساط التي صارت نسبتُها الأقل في آخر عشرين عاماً، ووضعنا برنامجاً شفافاً لمحاسبة الأساتذة والإدارة والطلاب، أتمنى أن يكون سموحاً لكنه يُخْضِعُ الجميع لمجهر المحاسبة تبعاً للواجبات المفترَضة. يصعب على المرء أن يعترف بأن التثبيت لم يشمله بسبب تقصيره أو افتقاره للمستوى العالمي للتعليم، ولتبرير الأمر يذهب إلى زوجته ويقول لها إنهم متآمرون عليّ.
رغم أنه تاريخياً تَخَرَّجَ مِن على مقاعد الجامعة الأميركية عتات المُناهِضين لـ"الإمبريالية الأميركية" مِن يساريين عرب وثوريين، يَجْري الخلْط دائماً بين الهوية الأكاديمية للجامعة وبين السياسة الأميركية ... هل من مرتكَز لهذا الخلط؟
الدستور الأميركي، كما الدستور اللبناني، يكرّس حرية الرأي، ونحن نفشل في حال لم نكرّس هذا الحق البديهي للإنسان. أما لفهْم السياسة الأميركية فعلينا أن ندرك - وهذا ما أتيح لي معايشتُه - أنها غالباً ما تعبّر عن وجهةِ نظرِ فئةٍ، وأنها نادراً ما تحظى بإجماع ... أذكر أن هذا الإجماع تَحَقَّقَ في عهد جورج بوش - الأب إبان الإجتياح العراقي للكويت، وتجلّى الأمر بتأييد 93 في المئة من الأميركيين لخياراته، كما تَحَقَّقَ في عهد بوش - الابن، بعد سقوط البرجين (هجمات 11 سبتمبر 2001). لكن وفي الحالتين أيضاً لم يصمد الإجماع لأكثر من بضع سنوات، وهذا أمر طبيعي ففي لحظات الإحساس بالتعرّض لهجوم يرتفع مستوى التضامن أما بعد زواله فيسود الإنفتاح ويذهب الناس إلى خيارات عدة مما ينعكس على السياسة الخارجية التي تصبح عرضةً للتغيّر رغم بعض ثوابتها، كالموقف من إسرائيل والدول النفطية. وكان من أهمّ هذه الثوابت الحلف مع أوروبا الغربية، الذي يعمل الرئيس الأميركي الحالي على تجاوُزه عبر مناصرة روسيا على حساب الأوروبيين.
السياسةُ الأميركيةُ متذبذبةٌ ومتغيِّرةٌ، ولا يمكن بناءُ أسسٍ لعقولٍ منفتحةٍ لنخبةٍ من الشابات والشبان على أشياء متغيّرة. نحن نريدهم أن يعرفوا الحقيقة وأن يختبروا آراءنا بما نعتقد أنه حقيقة. لهذا السبب أعتقد أن جميع رواد الجامعة كانوا يدركون الطبيعة المتغيّرة للسياسة الأميركية، أقلّه منذ أواخر الخمسينات. فالعلم والثقافة الأميركيان يتمتعان بأبعاد عالمية، أما ربْطهما بسياسة الإدارات الأميركية المُتَعاقِبة فهو أمرٌ غير جائز ولا حسنات له.
هل التُهمة بـ "التأمْرك" بمعناه السياسي جعلتْكم، ربما في سابقة نادرة، تعلنون موقفاً مناهِضاً لقرار الرئيس دونالد ترامب بجعْل القدس عاصمة لإسرائيل؟
مسؤولية رئيس الجامعة إزاء الأساتذة والإدارة والأهل والخرّيجين تجعله يقول ما قلتُه، وخصوصاً أن الجامعة لها أهمية تاريخية بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني. فالكثيرُ من رواد القضية الفلسطينية ورواد النهضة والمستقبل درَسوا على مقاعد "الأميركية" ومِن حقهم أن يسمعوا موقفاً واضحاً من رئيسها، سواء كنتُ أنا أو سواي، من قرار الرئيس ترامب بجعْل القدس عاصمة لإسرائيل وليس عاصمتهم (الفلسطينيون). كان عليّ اتخاذ موقفٍ واضح لا يعبّر عني شخصياً فحسب، بل جاء نتيجة تَشاوُر مع مجلس الأمناء والعمداء وبموافقتهم. ولو لم يوافقوا لكنتُ اتخذتُ الموقف كشخص لا كرئيس، ففي الحياة على المرء في بعض المرات أن يقف ويقول هذا خطأ. وبصراحة استغربت وأُصِبْتُ بالاشمئزاز من جميع رؤساء الجامعات العرب الذين لاذوا بالصمت ومن كل رؤساء الجامعات الأميركية العظيمة الذين استمروا على سكوتهم بإزاء قرارٍ لا يمت للحق بأي صلة ... وكذلك الأمر بالنسبة إلى قادة عرب.
لو كان الرئيس الفرنسي هو مَن اتخذ القرار الذي أعلنه ترامب حول مصير القدس، هل كنتَ شعرتَ بأنك مُطالَب باتخاذ موقف؟
نحن جامعة أميركية، وفي الإجمال لسنا موجودين لمحاسبة الرئيس الأميركي أو الرئيس الفرنسي، لكننا مُطالَبين باتخاذ موقف من أي مسألة تؤثّر على حاضنة الجامعة، أكان مصدرها الرئيس الأميركي أو الفرنسي أو سواهما، وتالياً لم يكن المقصود تحدّي الرئيس ترامب في شخصه وهو الذي كان مَدَحَنا قبل مدة حين اعتبر أننا نخرّج نخبة الرواد الذين يتميّزون باعتدالهم في المنطقة.
ما دمنا نتحدث عن فلسطين، ما صحّة المعلومات عن أن الجامعة تتولى الأعباء المالية للطلاب الفلسطينيين بعدما أوقفت الإدارة الأميركية دعمها المالي لـ"الأونروا" والمؤسسات الفلسطينية؟
لم نشعر بأنه ينبغي الكلام عن هذه المسألة غير القول إننا سنحلّها وسنتحمل العبء بقدر ما نستطيع وأكثر. فأقلّ ما يمكن أن نقدّمه لطلابٍ وطالباتٍ مستحِقّين انتموا إلى الجامعة وباتوا مهدَّدين بقطع تعليمهم بسبب مشكلة ذات طبيعة دولية، هو أن نضمن لهم استكمال تعليمهم. وهم في المناسبة يواجهون مشكلاتٍ من نوع آخر ترتبط بسماتِ الدخول وما شابه. وشرفٌ لنا أن نتحمل هذه المسؤولية حتى قبل أن نتأكد من تَجاوُب مجتمع الجامعة ومحبّيها في تقديم مساعدات لهؤلاء الطلاب، والنتيجة كانت أنهم قدّموا أكثر مما نحتاج إليه.
ثمة إشكالية لا يستهان بها ترتبط بالعقوبات الأميركية على "حزب الله"، مؤسسات وأفراداً، والآخذة بالتوسع ... وسَبَقَ للجامعة أن غُرِّمَت في ملفٍ على صلة بهذه القضية ... كيف يمكنكم المواءمة بين التقيّد بالقانون الأميركي وتَفادي فتْح أبوابكم لمَن هم على صلة بالحزب الذي يقال إنه يمثّل شريحة واسعة من اللبنانيين؟
العقوباُت الآخذةُ بالتوسع، تُتخذ بقرار ليس من الحكومة الأميركية فحسب إنما من الكونغرس الذي تسبّب أيضاً بمشكلة الطلاب الفلسطينيين يوم قرّر قطْع العلاقات مع السلطة الفلسطينية. والعقوبات مسألةٌ حساسةٌ طبعاً لأن أهمّ المِنح التي نحصل عليها لتعليم الطلاب وللبحث العلمي مصدرُها الحكومة الأميركية، وهذا مدعاة فخر لنا، فعلاقتنا ممتازة معها ونحن في الأساس جامعة أميركية، وهذه مسألة لا لُبس فيها. ولكن الدستور الأميركي لا يَسمح لأي جامعة بالسؤال عن الدين أو المعتقَد أو الميل السياسي لأي طالبة أو طالب. للجامعة الحقّ بالتحقّق من أي شبهةٍ جرمية تطال هذا أو ذاك وترفض تالياً انتسابه إلى الجامعة، أما ما عدا ذلك فأمرٌ خاطئ.
عندما حصلتْ المواجهةُ بيننا وبين الحكومة الأميركية، كنا واضحين بأننا على استعداد لتحمُّل مسؤوليتنا، فما حدَث في مرحلةٍ سبقت وجودي كرئيسٍ للجامعة، ارتبط ببرنامجٍ تعليمي مفتوح لوسائل الإعلام، شاركتْ فيه وسائل إعلام تتبع لجهاز "حزب الله"، ومن دون تَيَقُّنٍ من إدارة الجامعة بأنها تخرق البروتوكول مع الحكومة الأميركية، ولذا تحمّلنا المسؤولية ودفعْنا غرامةً باهظة ولكنها محدودة، وقلنا في الوقت عيْنه إننا لن نعمل على التدقيق في انتماء أي طالِب أو طالبة.
وأعتقد أن "حزب الله" - وما من حديث معه بطبيعة الحال - وسواه من الأحزاب في لبنان أو في المنطقة، يدركون أهمية التعلّم في الجامعة الأميركية وقيمة شهادتها، ويفضّلون تشجيع أفضل طلابهم على الدخول إلى هذه الجامعة. وتالياً هم يفهمون أن خرْق البروتوكول مع الحكومة الأميركية يعرّضنا للغرامة، وهم أصحاب مصلحة في عدم تعريض الجامعة لأي أضرار حفاظاً على فرص تعليمٍ ينشدونها لأفضل طلابهم، وها نحن اليوم نقْبل أفضل الطلاب من جميع الإتجاهات السياسية والدينية.
في حال ضاق هامش المناورة على هذا المستوى، هل تخشون دفع أثمان لوجودكم بين ناريْ العقوبات الأميركية من جهة و"حزب الله" من جهة أخرى، على غرار ما عاناه القطاع المصرفي؟
- ما من شك أننا حُشرنا بين الجهتين من الناحية النقدية، لكن ما دمنا حريصين على رسالتنا القائمة على معادلة: المستوى عالٍ كفايةً والمجتمع موحّد كفايةً، تهون بعض المشكلات التي تواجهنا. ورهاننا الدائم يبقى على مجتمعنا، مجتمع الـ AUB الذي يضمّ نحو 70 ألف خرّيج. فلو افترضنا أن المصاعب الإقتصادية والمالية في العالم العربي تعاظمتْ وأصبح من الصعب على الطالب أو المريض الدراسة أو التطبّب في جامعتنا، فالملاذ هو مجتمعنا لأننا نحن جامعة غير غنية مادياً إنما غنية أكاديمياً وفكرياً وثقافياً وعلمياً.
ولايتكم الثانية كرئيس للجامعة تبدأ في سبتمبر المقبل بعدما جَدّد لكم مجلس الأمناء استناداً إلى تقويمٍ لتجربة الولاية الأولى توقّف فيه عند "الإنجازات الإيجابية التي تَحَقَّقَتْ وبوتيرة سريعة"... ما الذي كان ينبغي أن يتحقق ولم يُنْجَز وتعتزمون تحقيقه؟
- دائماً هناك ما يرغب الإنسان في تحقيقه وبسرعة أكبر. وعندما نضع تصوراً في شأن المرحلة المقبلة نأخذ في الحسبان أولاً العمل على زيادة المساعدات المالية للطلاب وتقويم المناهج وتطويرها على نحو يجعلنا على يقين بأننا نعلّم الأفضل وبوسائل متجددة من دون أن يكون الأمر على حساب رسالة الجامعة ومضمونها.
نحن الآن بدأنا بتوسيع المستشفى الجامعي عبر إضافة مبنى جديد، ونقوم بإنشاء مبانٍ لـ (كلّيات) الإنسانيات والفنون، ونسعى للمجيء بأفضل الأساتذة والعلماء والإنسانيين إلى الجامعة. وأتمنى مع نهاية الولاية الثانية لوجودي كرئيسٍ أن نشاهد إنجازات أكثر في ميادين مختلفة. ومن المسائل التي أرغب في تحقيقها تعزيزُ المفهوم العالمي للجامعة، فلا يكفي ما حدَث طويلاً عندما انكفأنا لاعتقادنا أن مهمّتنا تقتصتر على أن نعلّم ونُغْني الدراسات العلمية والإنسانية ونخدم مجتمع الجامعة. فرسالتنا أهمّ وأعمق، ودور الجامعة هو التأثير في "عقل" التفكير الإجتماعي في لبنان والعالم العربي ومضمونه. وإذا اقتصر عملنا على إنجاز الدراسات وتعليم الطلاب ثم إدارة الظهر لهم، نكون فشلنا مهما أنشأنا مبانٍ وجمعْنا أموالاً وطبّبنا مرضى وأتينا بأساتذة، فمن المهم أن ندْرك أن للجامعة دواً رائداً في المجتمعات.
هل لهذا السبب اقترنت ولايتكم الأولى بإيلائكم أهمية أكثر لكليات العلوم الإنسانية ومكانة المرأة ولمبادرات المجتمع المدني وللعلاقة مع محيط الجامعة؟
- مشكلة "الإنسانيات" موجودة في كبريات الجامعات في العالم ولا تقتصر على "AUB". وهي تخضع لإعادة نظر بعدما إقترنت النظرة إلى "الإنسانيات" بالسؤال عن مصير الخرّيجين في مجال الفلسفة أو العربية أو التاريخ أو الإنكليزية أو العلوم السياسية، وأي مستقبل لهم؟ ... من المهم أن نعرف في هذا المجال أن دورنا ليس فبْركة طلاب للتوظيف، فالجامعات هي أساسٌ في تكوين المضمون الفكري والقِيَمي للإنسان وشخصيته، وإذا أضعْنا البوصلة وتحوّلنا إلى مجرّد فبركة عمال تكنوقراطيين، نكون فشلنا لِتَجاهُلِنا أهمية كون "الإنسانيات" في صلب هذه المعادلة. وكي لا نفشل، أصبحنا نرى عميد كلية مارون سمعان للهندسة العمرانية يعمل يداً بيد مع عميدة كلية الآداب والعلوم ناديا الشيخ للخروج بمنهاج جديد للمهندس الذي يصبح أكثر قدرة على التعمّق في الإنسانيات في إطار البحث عن حلول في ميدان الهندسة.
تُفاخِرون بالأجواء السلمية للحوار السياسي وبالإنتخابات الطالبية على قاعدة النظام النسبي وما شابه، لكنكم تُجاهِرون بأن لا خيارات سياسية لكم ... ألا تعتقدون أن في الأمر موقفاً سلبياً أكثر مما هو حياد إيجابي؟
- في لبنان لا مواقف سياسية معلَنة لي. لكن عندما نتخذ أي موقف لا بد منه، يكون في غاية الوضوح بالنسبة إلى المعنيين. وكلما كنا نشعر بضرورة اتخاذ موقف ما فعلنا ذلك، رغم أننا انتُقدنا من بعض الأساتذة كما حصل حين كانت الدولة مشلولة ومن دون حكومة، إذ يومها دعونا إلى قيام حكومة تكنوقراط وأبدينا استعدادنا نحن (AUB) والجامعة اليسوعية لتقديم أسماء حيادية غير منحازة.
كمواطن لبناني أو متحدّر من أصل لبناني عاش بعض تجربة الحرب ويعاين الآن ما يجري في البلاد ... ما الذي يحول، في تقديركم، دون نهوض لبنان من هذه الكبوة التي لم يغادرها منذ عقود؟
- من الأشياء التي تحول دون مستقبل مُطَمْئن للبنان، ليس منذ بدء الحرب قبل نحو 45 عاماً وإنما منذ الإستقلال، هو قلّة الاقتناع بأهمية تثبيت فرصٍ للبنانيّ للعمل والإبداع في لبنان. ولنأخذ قطاع الصناعة على سبيل المثال، فالفارق في قيمة ما يصدّره لبنان وما يستورده وهو بلد صغير، نحو 14 مليار دولار (لمصلحة الإستيراد) على الأقلّ. فاقتناعنا كشعب لبناني بالصناعة منذ الخمسينات غير كافٍ، وهو ما يدْفعنا دائماً للتأكيد أمام المسؤولين على أهمية فتْح المجال أمام عقول اللبنانيين الذي لا يحتاجون لاختبار حبّهم لوطنهم. فصحيح أنهم يهاجرون ويحققون إنجازات في الخارج ويحوّلون أموالاً إلى لبنان، لكن الأصح أن استثمارهم في وطنهم يعود بالفائدة أكثر على لبنان ومستقبله.
وللأسف إن ظواهرَ مثل الفساد والهدر والمحاصصة، والتي صارت أكثر تجذّراً بعد الحرب، شكّلت واحدة من الأسباب الجوهرية التي تعوق النهوض بلبنان، وخصوصاً أن اللبنانيين المتفوّقين في الخارج الذين يعيشون في الولايات المتحدة واستراليا وسواهما يترددون في المجيء الى لبنان والاستثمار فيه رغم نجاحنا في إقناع البعض بالتعاون مع الجامعة من أجل صناعة فرصٍ واعدة نظراً لوجود أدمغة لامعة في البلاد وترغب في البقاء فيه.
كطبيب وباحث في ميدان السرطان كيف تُقارِب ما يقال عن أن نسبة الإصابة بالسرطان في لبنان هي الأعلى في المنطقة؟
- الأسباب واضحة ... التدخين والنرجيلة، والتلوّث الهائل عبر رمي النفايات في البحر أو حرْقها. كل ذلك يؤدي مع الوقت إلى السرطان وغير السرطان، وهو نتيجةٌ حتمية لفشل الدولة في فرْض مستوى معقول من القانون والمحاسبة، ولعدم التزام الناس لشعورهم بعجز الدولة عن تطبيق القانون، وهذا ما أدى تالياً لوجود أعلى نسبة من السرطان في لبنان مقارنة بما هو عليه الحال في العالم العربي.
أما كيف يمكن المعالجة؟ نعالج الشخص انطلاقاً من تقدم الطب، لكن هذا الأمر غير كافٍ، فعلينا معالجة البيئة والحدّ من التدخين. وفي الجامعة منعْنا أي أنواع من التبغ، وينبغي أن تتضمن المناهج التعليمية في المدارس الإضاءة على سيئات التدخين وخطر إستخدام الهورمونات في تغذية الحيوانات والدواجن.
35 في المئة من اللبنانيين يدخّنون السيجارة أو النرجيلة، والأدهى أنه في لبنان والأردن 70 في المئة من الشباب يستعملون النرجيلة أقلّه مرة قبل أن يبلغوا عمر الـ19 سنة، و 45 في المئة من الشابات كذلك.
لبنان بلد جميل ويملك مميزات طبيعية، وعلى الدولة والشعب أن يدركا ما يعنيه أن تكون نسبة السرطان في لبنان هي الأعلى في العالم العربي، عليهما التعاطي مع الأمر بجدية وحذَر.
ترتبطون بعلاقة مميزة مع الكويت، التي كانت لها حصة مرموقة من خرّيجي الجامعة في بيروت ... هل تَطَوُّر المستوى الأكاديمي في الكويت وبلدان عربية أخرى انعكس على موقع لبنان عموماً و"أميركية بيروت"، خصوصاً كـ"جامعة العرب"؟
- حقق التعليم العالي في الكويت وبعض دول الخليج والعالم العربي تطوّراً ملحوظاً إنعكس على نحو جيّد وإيجابي على تلك الدول وطلابها الذين أصبح أمامهم أكثر من خيار، إما البقاء في بلدهم لمواصلة تعليمهم العالي، وإما أن يأتوا إلى الجامعة الأميركية في بيروت أو يذهبون إلى الغرب أو الشرق. فالخيارات المفتوحة أمرٌ مهم، وإرتفاعُ مستوى التعليم في الجامعات في الكويت، وخصوصاً في جامعة الكويت الوطنية، التي في رأيي هي أفضل الجامعات، أصبح ملحوظاً ونفتخر به، فالكثر من رواد هذه الجامعات ومؤسسيها هم من خرّيجينا، وهو أمرٌ يثبت أن رسالتنا كانت الحرص، ليس على استقطاب أفضل طلاب الكويت، وإنما أيضاً على تطوير قدراتهم ليصبحوا رواداً ويلعبوا دوراً مهماً في خدمة بلدهم.
لم يسبق أن زرت الكويت قبل تسلمي رئاسة الجامعة، لكن ومنذ ذلك الحين زرتُها خمس مرات وأستعدّ لزيارتها الآن. والسؤال الدائم هو كيف يمكن الحفاظ على العلاقة مع الكويت وتطويرها دائماً نحو الأفضل؟ وفي تقديري أنه لا بد من تأسيس رابطة تضمّ أفضل جامعات العالم العربي وأرْفعها مستوى، بحيث نعمل سوياً ونعزّز الروابط بيننا ومع خرّيجينا.
الكويتيون من كبار الملاك في جبل لبنان وبيروت، وتسنى لي إكتشاف مدى حبهم للجامعة وللبنان، ومردّ ذلك ربما لأن أوجه الشبه كثيرة بين الشعبين، فكلانا على تخوم بحرٍ وأكثر تمسكاً بالانفتاح وحرية الرأي والنقد وحرية الصحافة، ونأمل في الجامعة أن نستمرّ في تطوّرنا كـ"كنز" يحرص عليه أهل الكويت وأهل دول منطقتنا.