تحتل البرامج الثقافية والفكرية الجادة مساحة ضيقة في الإعلام العربي المشاهد والمسموع، وهي المساحة التي تفتقر في معظم حالاتها إلى المتابعين، الذين يفرّون إلى برامج أخرى أكثر إثارة وسطحية، تلك التي تقدم الترفيه والتسلية، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو فنية من منظور سطحي مخالف تماماً لمفهوم الثقافة التي تتطلب استنهاضاً تاماً للأذهان من أجل وضع مفاهيم معاصرة للواقع الذي نتعايش معه، والسير قدماً نحو أهداف نهضوية متطورة.
والمتابع للقنوات الفضائية العربية، سيجد أن الرسمية منها تضع في خططها ومشاريعها الإعلامية برامج تمنح المشاهدين جرعات متزايدة من التسطيح والثرثرة غير المفيدة، إلا القليل منها الذي يحترم عقلية المشاهد من خلال حسن اختيار المذيعين والمعدين والمخرجين، للخروج ببرامج - سياسية أو اجتماعية - تهدف إلى إلقاء الضوء على القضايا الحيوية المهمة، تلك التي تهم المجتمع وتدفعه إلى التفكير في قضاياه الراهنة، ومن ثم محاولة وضع الحلول المناسبة لها.
لا ننكر أن هناك قنوات فضائية عربية رسمية تحاول أن تحقق المتعة الذهنية والفكرية للمشاهدين، من خلال بعض برامجها المهمة والضرورية التي لا تميل إلى فئة ضد فئة أخرى، ولا تنحاز لفكرة محددة، أو رؤية أحادية، ولكنها تسير وفق منظومة إنسانية خالصة، من أجل الكشف عن مواضع الخلل ومن ثم طرح الحلول والتصورات من أجل حلها، وفي المقابل هناك برامج كثيرة تعتمد على الإثارة والصوت الأحادي للمذيع الذي يقول ما يحلو له، وينظّر من دون حسيب أو رقيب ويحرّض ويتحامل على فكرة في مقابل تلميع فكرة أخرى قد تكون دون المستوى، لأنه في النهاية يريد أن يكسر حاجز المتابعين الموالين له أو الرافضين، ولا يهم وقتها هل قدم للمجتمع رؤية يستفيد منها أم لا!
والقنوات الفضائية المختصة بالثقافة فقط رغم قلتها، إلا أنها تقدم برامج متخصصة جافة خالية من المضمون والقيمة، ومعظمها حواري أو أرشيفي، أو متابعة للأنشطة الثقافية، لا تخدم مشاهدها بشيء، ولا يتابعها إلا قلة قليلة من الذين يستفيدون من وجودها، أو مشاهدون تمكنت من أنفسهم الثقافة، ويهربون من البرامج السطحية الأخرى إليها، حتى لو كان محتوى هذه القنوات الثقافية دون المستوى المطلوب.
كما أن القنوات الفضائية العربية الخاصة اندفعت بشكل غير مسبوق للبرامج الترفيهية التي لا طائل ثقافياً من وراء متابعتها، أو تلك البرامج التي يدعون أنها سياسية، ولا نرى فيها إلا مذيعاً واحداً لا يمتلك أدنى مقومات أو مواصفات المذيع، ليتحدث في أمور شتى ومواضيع مختلقة، ويحلل حسب ما يملي عليه لسانه - وليس عقله - ويتحاور مع نفسه، والمصيبة أن مثل هذه البرامج تجد رواجاً ومشاهدة مربكة بسبب كثرتها، رغم أنها لا تقدم أي جديد، فهي ثرثرة فقط، وأحاديث من هنا وهناك.
وفي المقابل ربما نجد أن هذه القنوات الخاصة تقدم برامج مهمة وضرورية تخدم المجتمع، ولكنها للأسف قليلة، ولا تجد دعماً كافياً من الجمهور المتابع، لذا فإنها تتعرض للتوقف بين الفينة والأخرى.
ليست البرامج الثقافية فقط، هي التي تعتني بالأدب من شعر وقصة ورواية، إنها البرامج التي تهتم بالإنسان بفكره وعلمه ومفاهيمه، ووعيه الذي يجب أن يكون متطوراً حسب ما تمليه عليه متطلبات التطور والنهضة.
إنها تلك البرامج التي تحترم الفكرة الناهضة وتروّج لها، وتبحث عن الرؤى التي تخدم المستقبل، سواء كانت أدبية أو فكرية أو فنية أو سياسية أو اقتصادية، وبالتالي فإن أي برنامج له علاقة مباشرة بالإنسان ويسعى إلى تطور ونهضة أفكاره فهو برنامج ثقافي، وعلى هذا الأساس فإن الكثير من البرامج التي نشاهدها على القنوات العامة والخاصة وحتى الثقافية، لا علاقة لها بالثقافة من قريب أو بعيد.
فهذا البرنامج - مثلا- الذي يستضيف أديباً لا تأثير لكتاباته، ويتحاور المذيع معه في مواضيعه الشخصية، من دون أن يحاوره في القضايا التي تهم المجتمع، هو برنامج غير مفيد ولا يمكن تسميته بالثقافي لمجرد أنه على قناة ثقافية والضيف أديب.
نحن بحاجة إلى رؤية واضحة وصريحة لمفهوم البرامج الثقافية التي يجب أن تقدم، مع الوضع في الاعتبار أن القنوات الفضائية ومنذ زمن بعيد قد كرست التسطيح كمفهوم يجب أن يتابعه المشاهد، وألغت تماماً المزاج الثقافي الجاد، مما جعل من البرامج الهادفة هماً ثقيلاً على المشاهدين، يفرّ من متابعتها، إلى برامج يشاهد فيها الترفيه والتسطيح والتفاهة، لذا فإن إعادة هؤلاء المتابعين إلى مفهوم ثقافي جاد أصبح مسؤولية يتحملها، كل من يحمل في مشاعره الرغبة في التطوير والنهضة، ويرى أننا نسير في دروب مظلمة نهايتها مؤلمة للأسف الشديد!