البعض يتوقع انفضاض عصر النشر الورقي بشكل نهائي، كي تحال كل الكتب الورقية إلى التراث الإنساني، وبالتالي لا يمكن مشاهدة الكتاب الورقي شكلاً ومضموناً إلا في المتاحف، أو عند أولئك الذين يهتمون بالتراث الإنساني، لتتحول مكتباتهم من عنوان الكتب التراثية والتي تختص بالإصدارات التي مرّ على نشرها عشرات أو مئات السنين، إلى الكتاب الورقي بنكهته وشكله، ومن ثم تنظم الرحلات المدرسية إلى تلك الأماكن التراثية لاطلاع التلاميذ والطلبة على الطريقة التقليدية المنقرضة، تلك التي كان يستخدمها الآباء والأجداد في القراءة وتحصيل المعرفة، والمعاناة التي كانوا يتعرضون لها من خلال دورة حياة الكتاب بداية من طباعة محتواه ومن ثم عرضه على دور النشر.
وعند الموافقة على نشره يدخل المحتوى إلى الترتيب والإنتاج والتنسيق، واختيار الغلاف، ليدخل مرحة المطبعة ونسخ أعداد منه تزيد أو تقل حسب الحاجة والظروف، وبعد ذلك يذهب به الناشر أو صاحبه إلى الجهات الرسمية المعنية، لعرضه على الرقابة التي قد تتخوف من محتواه وتضطر إلى منعه، ومنعه من التداول، ولو نجا من المنع وتحقق له الإفساح الرقابي، سيدخل في دوامة الحصول على رقم إيداع وتسلسل وخلافه. وتندرج هذه المسألة.
ثم يأتي تحديد سعر الكتاب، والتوزيع على المنافذ في مختلف الأماكن،، والمشاركة به في معارض الكتب، والدعاية له، وأخيراً تحميل المرتجع إلى دور النشر مرة أخرى، والشكوى من ضعف التوزيع، مما يضطر صاحبه إلى توزيعه مجاناً على الأصدقاء، وضعف النقد، مزاجية النقاد، وتعامل بعضهم مع ما يكتبونه حول الكتاب بأسلوب لا يخلو من المصلحة وتبادل المنافع.
في ما يرى البعض الآخر أن الكتاب الورقي باقٍ، ولن ينقرض – كما يروج الآخرون – مثلما صمد «المذياع» في مواجهة الاختراع الجديد «التلفاز»، الذي هو بدوره صمد في مواجهة الفضاء الإلكتروني، وإلى الآن لا تزال الوسائل الثلاثة «المذياع والتلفاز والإنترنت»، تؤدي أدوارها حسب ما تتطلبه الحالة، ولم تتوقف بشكل نهائي الأجيال في التعاطي معها بشكل أو بآخر.
وأصحاب هذا الرأي لا يعولون فقط على الجيل الذي عاصر النشر الورقي وتشرب بمفهومه وأطربه عبقه ورائحة أوراقه، وليس بمقدوره أن ينقلب عليه ويكتفي بالقراءة من خلال النشر الإلكتروني من خلال الشاشة الضوئية، كونه يريد كتاباً ورقياً يتصفحه وهو مسترخ، ولا يستهويه الحروف الإلكترونية على شاشة مضيئة، لا تستطيع إعطاء الدفء المعنوي الذي يتصف به الورق.
كما أنهم لا يعولون على جيل الوسط الذي يستطيع القراءة بالشكلين «الورقي والإلكتروني» وليست لديه غضاضة من أن ينسجم معهما ولا يسعى إلى استبدال آخر على حساب آخر، إلا أنه قد يميل لجهة دون أخرى، غير أنه مستمر في القراءة على النمطين.
وكذلك لا يعوّل على الجيل الحديث الذي استلهم القراءة الورقية من خلال تأثرهم بالآباء، المتمسكين بالقراءة التقليدية للكتب والإدارات الورقية.
ولكن الذي يعولون عليه هو نظام التعليم العالمي الذي لا يزال يستخدم في أدواته التربوية والتعليمية القلم، بمعنى أن الطفل في مراحله التعليمية الأولى «الروضة وما قبلها» لا يُوجّه إلى الحاسوب والكتابة الإلكترونية بقدر ما يُوجّه إلى القلم والورقة، فالمعلم يدربه على الطريقة التي يستخدم بها القلم في الكتابة والرسم على الورق، ثم بعد ذلك يتجه إلى الوسائل الحديثة في الكتابة والقراءة.
وفي اعتقادي أن ذلك من أكبر ما نعوّل عليه في استمرار الكتاب الورقي، لأجل غير محدود، فمتى ما أعلنت كل أو معظم المؤسسات التعليمية إلغاء طريقة تعليم الأطفال في مراحلهم التعليمية الأولى بالقلم والورقة، ووضعت أمامه الأجهزة الذكية الحديثة، ليتعلم عليها، ومن ثم نسيان القلم والورقة تماماً وإخراجها من حساباتها، وقتها يمكن القول أنه لا وجود للكتاب الورقي، وسيحال إلى التراث الإنساني المنقرض.
نعم سيظل الكتاب الورقي موجوداً رغم التقنيات الحديثة، ولكن قد يطرأ عليه الكثير من التغيير في الشكل والمضمون لكن روحه لن تزهق، وسيواصل حياته، مثلما واصلت وسائل تقليدية أخرى حياتها، في وجود وسائل أكثر حداثة، فنحن لا نتحدث عن اختراع ظهر بعد آخر أكثر حداثة، كالآلة الكاتبة التي أزاحها الكمبيوتر من طريقه، والرسائل البريدية، التي حلت محلها الرسائل الإلكترونية، ولكننا نتحدث عن كتاب لازم الإنسال، منذ فجر تاريخه، وأثر في مختلف حياته، وأعتقد أنه سيظل يؤثر، طالما أن الإنسان يفكر ويبدع ويسعى إلى الثقافة.
فلطاما أن الكتاب الورقي - أي كتاب - لديه مرونة شديدة للتكيف مع التكنولوجيا، فإنه سيبقى ولن ينقرض كما يتوهم البعض، وهذا التكيف يتمثل في قدرته أن يتحول إلى كتاب إلكتروني يمكن طباعته إلى كتاب ورقي، وهو ما تقوم به بعض المواقع من خلال بيعها للكتب الورقية، كما يمكن للكتاب الورقي أن يكون حيوياً من خلال الرسوم المتحركة، ويمكن إدخال الإضاءة على صفحاته، أو إغلاقه وفتحه بطرق حديثة وغيرها من الأدوات الحديثة، حاضراً ومستقبلاً.