قضية / غاب دوره بين تبادل المصالح والمجاملات والاستعراض

النقد الأدبي... منظومة حياتية تلفظ أنفاسها الأخيرة

1 يناير 1970 07:28 م

النقد الأدبي - بصفته التفسيرية والاستكشافية والتوجيهية، وبأسسه الرصينة المبنية على دعائم الرغبة في استقرار الإبداع الجاد، على أرضية صلبة، وفضح الادعاءات، لم يعد قائماً في وقتنا الراهن، الذي يتنافس على حلبته الرديء مع الرديء والسيئ مع السيئ، بينما المتميز والجاد والحقيقي يجلس في ركن بعيد، لا يستطيع الوصول إليه إلا قلة قليلة، لا تزال تحلم بالأدب في أضوائه المدهشة.
كانت - في سالف العصر - نخبة من النقاد تسعى من أجل إزاحة الحجب والأتربة عن الإبداع الجاد، وتقدمه للمتلقي في صور مشرقة وبراقة، تحمل في معانيها الصدق والإخلاص للمنتج الأدبي، الذي يعوّل عليه في مسائل إنسانية شتى، لعل من أبرزها التبشير بالمستقبل، والكشف عن المواقف والأفكار التي من خلالها يمكن للمجتمع أن يعيش في حالة مستمرة مع الواقع الذي يعيشه.
كانت تلك النخبة تترصد الإبداع في كل مكان، وتبحث عنه في صيغه الحقيقية، بينما لم تكن تلتفت إلى الكتابات التي دون المستوى، لتتركها تجف وحيدة على عروشها النامية في الأساس في أرض بائرة... تُروى من ماء آسن.
لم يكن الناقد متعالياً على المتلقي... بقدر ما كان متفاعلاً معه لأبعد الحدود، كاشفاً له - بأسلوب مرن وسهل - تلك الإبداعات التي تستحق أن ينهل منها ويتذوق جمالياتها، ويتحيز لمعانيها، ويطرب لخيالاتها ويتذوق طعم مفرداتها، ويستشرف فيها الأمل والمستقبل.
لم يكن يكثر من المصطلحات الجاهزة المعلبة، والمتاهات التي لا مخرج منها، بقدر ما كان سهلاً بسيطاً، كل غايته أن يكتشف القارئ بنفسه الجماليات في المادة الإبداعية التي يقدمها له قي صيغة نقدية رصينة.
وعلى هذا الأساس توافرت بيئة صالحة لمبدعين حقيقيين، كي يتعرف عليهم الجمهور ويتابع ما يكتبون بشغف وحب، فيما ظلت الكتابات الأخرى - مهما كان نفوذ أصحابها كبيرا - مهملة لا يلتفت إليها أحد، وإن التفت إليها البعض - بفعل عوامل تتعلق بالوساطة أو التنفذ - فإنها التفاتة وقتية... سرعان ما تذوب وتنطوي على نفسها من دون أن تترك أثراً في نفوس المتلقين.
الأمر تغير كثيراً خلال هذه الفترة من الزمن، وخصوصاً في بداية عام 2000، لنجد أن الناقد الأدبي قد تغيرت رؤيته للمسألة الإبداعية، ليتحول - بفعل تسارع الحياة وهيمنة المادة على كل نواحي الحياة - من ناقد همه الأساسي الكشف عن الأدب الجاد لعرضه على المتلقي في تلقائية ويسر، إلى ناقد همه الأساسي البحث عن المصلحة المادية، من خلال اتباع أسلوب التنفيع، والركض خلف المصلحة، سواء كانت مادية أو معنوية من خلال المجاملات وخلافه.
نحن أمام نقاد، قليل منهم لا يزال محافظاً على مبادئه ورؤيته الجمالية للإبداع، بينما الكثير أصبح لا يكترث بالجمال والموهبة والقدرة على النفاد إلى وجدان المتلقي، ليتحول إلى مجرد شخص يلهث خلف ما يوفر له المصلحة ويحقق له تطلعاته المادية، ويساند من خلالها المجموعة التي يرغب في أن تتصدر المشهد الأدبي، بغض النظر عن القيمة الإبداعية التي تقدمها هذه المجموعة للحياة.
 ومن ثم بدأت الرداءة تسيطر على الساحة بكل ما تحمله من قبح، وعدم قدرة على التعبير عن الحياة العامة بشكل صادق وصريح، وبدأنا نقرأ لكتاب ليس لديهم المواهب والإمكانات التي يستطيعون من خلالها أن يكونوا لسان حال الفترة الراهنة، فاختلطت الأمور في ما بينها ولم يعد هناك قدرة على التمييز بين الصالح والطالح، ومن ثم تواصل القبح كي يزيح الجمال من طريقه، بعدما تمكن أصحاب المواهب الضعيفة، من شراء النقاد - وحتى الكبار منهم - لتتحول مسألة النقد من وسيلة للكشف عن المتميز إلى وسيلة للتربح.
وفي الجانب الآخر نجد نقاداً يستعرضون على المتلقي - غير المتخصص - قدراتهم على حشد أكبر قدر من المصطلحات، وتهويمه في شروحات المدارس النقدية، من دون أن يضيء بشكل مباشر وبناء على العمل الأدبي الذي يتناوله بالنقد، وذلك يعود إلى عدم قدرة هذا الناقد إلى التغلغل في مضمون العمل، الذي ربما يذهب به لأبعد ما يحتمل من تفسيرات وتحليلات، ومن ثم يضيع المتلقي في هذا الزحام الذي يصنعه الناقد من دون مبرر.
وحينما تقلص أو انزاح دور النقد في التعريف بالأعمال الأدبية، ظهرت أشكال أخرى للقيام بهذا الدور، مثل مواقع التواصل الاجتماعي، التي تقوم بمهمتها في القضاء على ما تبقى من روح الأدب الجاد، وأصبح من السهل على عمل أدبي رديء - لا يتضمن في متنه أي مواصفات أدبية مخلصة لوجه الحياة - أن يتصدر الساحة ويحقق الشهرة التي تؤهله ليكون عملاً أدبياً واسع الانتشار، وذلك من خلال الترويج المستمر بإلحاح منقطع النظير، والتفرغ التام أمام الأجهزة الذكية، لفرضه عنوة على المتلقي، الذي غابت أو أفلت ذائقته، ولم تعد له قدرة تحديد الغث من السمين.
كما أن رواج الجوائز... أصبح لها الدور أيضاً في مسألة فرض العمل الأدبي على المتلقي، من خلال لجان لديها أمزجتها، ومصالحها، تستطيع أن تفرّغ العمل الجيد من مضمونه، وإسقاطه، في ما ترفع عملاً آخر أقل جودة وقيمة، ومن ثم تضيع الحقيقة، ويستولي على الساحة الفوضى.
إننا خلال هذه الفترة نعيش في زمن لم يعد فيه للنقد الجاد قيمة، ومن ثم فإننا مرغمون على المضي في طرق وعرة، لنحدد لأنفسنا أعمالاً أدبية تستحق القراءة، ونقول أنها تعبر عنا، وذلك بعدما تغيرت المفاهيم، وتصالحت المصالح، واتسعت دوائر الوهم.
وفي حقيقة الأمر رغم ما تقدم... ورغم أن النقد الحقيقي يلفظ أنفاسه الأخيرة، فإننا نتوسم في النقاد الحقيقيين الذين لا يزالون يعملون ولكن في صمت، ورغم قلتهم نتمنى أن يحققوا ما نتمناه للمنظومة الإبداعية، فلربما تكون المسألة صعبة، ولكنها ليست مستحيلة.