في العام 2006، اضطر الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن إلى إقالة مستشاره السياسي والقانوني، كلود ألين، بعد أن ثارت حوله آنذاك بوادر فضيحة على خلفية توجيه اتهامات إليه بأنه دأب على سرقة أشياء بطرق احتيالية من متاجر!
في بداية الأمر، أنكر مستشار الرئيس أنه قد فعل ذلك، لكنه اضطر لاحقاً إلى الاعتراف في اطار صفقة قانونية عقدتها معه المحكمة في مقابل تخفيف العقوبة على أساس اعتبار أن لديه «عذر».
ووفقا لما كشفت عنه تفاصيل تلك الفضيحة التي نالت في حينها نصيبا كبيرا من التغطية الإعلامية، اعترف المتهم بأنه قد نفذ عشرات من عمليات السرقة الاختلاسية على مدار سنوات سابقة، حيث كان يذهب إلى متاجر التجزئة ويأخذ أشياء من على الأرفف ويدسها في جيوبه أو في حقيبته ثم يخرج بها من دون أن يدفع أثمانها.
وبطبيعة الحال، كانت تلك الفضيحة مثار اهتمام لأن منفذ تلك السرقات كان يشغل منصباً مرموقاً. لكن الأمر الذي أثار دهشة الجميع هو أن أثمان الأشياء التي سرقها لم تكن عالية، بل كانت تتراوح بين بضعة دولارات وبضعة عشرات في أقصى الحالات، ما يعني أنها كانت في متناول استطاعته المالية بالنظر إلى ما يتقاضاه من أجور كمحام مرموق وكمستشار للرئيس.
وعلى قاعدة مقولة «إذا عُرِفَ السبب بطل العجب»، فإن العجب إزاء تصرفات كلود ألين يتبدد إذا علمنا أن المحكمة اعتبرت أنها تنبع من اضطراب نفسي وعقلي يعرف علميا باسم الـ«كلِبتومانيا»، وألزمته بالخضوع إلى جلسات علاج نفسي.
حلقة اليوم تسلط الضوء على ذلك الاضطراب من جوانب عدة:
خلفية تعريفية
يعود أصل اشتقاق مصطلح «كلِبتومانيا» (Kelptomania) إلى اللغة اليونانية القديمة، وهو يتألف من مقطعين أولهما هو (kelpto) الذي معناه «يسرق»، أما ثانيهما فهو (mania) الذي يعنى «هَوَس» أو «رغبة قهرية». وعلى هذا الأساس، فإنه يمكن ترجمة كلمة «كلِبتومانيا» عربياً إلى«هَوَس السرقة» أو «الرغبة القهرية في السرقة».
وهناك تعريفات عدة لهوس السرقة، لكن أكثرها شيوعا في أدبيات علم النفس هو أنه «اضطراب نفسي وعقلي يؤدي إلى سلوكيات اختلاسية تترجم رغبة اندفاعية قهرية في سرقة الأشياء لأجل لذة السرقة في حد ذاتها، حيث لا يكون المريض مفتقرا بالضرورة إلى المال اللازم لشرائها، ولا يكون عادة في احتياج حقيقي إليها، ولا يهدف في المقام الأول إلى الاستفادة منها أو إفادة غيره بها».
ووفقا لمراجع تاريخ أدبيات علم النفس، تم اعتماد مصطلح «كلِبتومانيا» للمرة الأولى في العام 1816 كما تم تصنيف تلك الحالة النفسية ضمن فئة «اضطرابات السيطرة على الاندفاعات القهرية».
وإلى جانب أن اضطراب الـ «كلِبتومانيا» ليس شائعا على نطاق واسع، فإنه ما زال من الصعب وضع احصائيات دقيقة لمدى انتشاره نظرا إلى إحجام معظم المصابين به عن الاعتراف خوفا من الوصمة التي قد تلاحقهم طوال حياتهم.
علامات... ومراحل
على صعيد التشخيص، يعتمد الاختصاصيون والمعالجون النفسيون على مجموعة من العلامات والمراحل المتعاقبة المحددة التي يتم في ضوئها تحديد إذا كان الشخص مصابا باضطراب هوس السرقة أم لا. ومن أبرز تلك العلامات التشخيصية ما يلي:
• تكرار نوبات الرغبة الاندفاعية في سرقة أشياء بسيطة عادة لا يكون الشخص في حاجة إليها.
• تبدأ نوبة رغبة السرقة بحالة من التوتر تنتاب الشخص، ولا يهدأ ذلك التوتر إلا بعد إشباع تلك الرغبة.
• بعد نجاح العملية، يقوم الشخص عادة بالتخلص من الشيء المسروق أو اخفائه، وقد يستعمله.
• عقب تنفيذ كل عملية سرقة، يشعر الشخص بنوع من اللذة والنشوة اللحظية.
• بعد ذلك، يبدأ الشخص في الشعور بالذنب والخزي من النفس وتأنيب الضمير.
• في نهاية النوبة، قد يبدأ الشخص في السعي إلى التخلص من شعوره بالذنب بطرق عدة من بينها إعادة الشيء المسروق إلى مكانه سرا، أو إعطائه لشخص آخر.
ولأن اضطراب الـ«كلِبتومانيا» منشأه قهري، فإن المريض يستسلم لرغبته الجامحة للسرقة أينما كان، سواء كان في متجر أو مطعم أو في مكان العمل أو على متن طائرة أو حتى في مكان العبادة.
سمات فارقة
كيف يمكن التمييز بين مريض الـ «كلِبتومانيا» من ناحية والسارق المعتاد من ناحية ثانية. تكمن الاجابة عن ذلك التساؤل في رصد السمات التالية:
• على عكس السارقين المعتادين، لا يسرق مريض الـ «كلِبتومانيا» عادة لتحقيق مكاسب شخصية، أو للتحدي، أو للانتقام، أو بدافع التمرد. بل يسرق ببساطة استجابة لجموح رغبته التي لا يستطيع مقاومتها.
• تحدث نوبات الـ «كلِبتومانيا» بصورة تلقائية، وعادةً من دون مساعدة أو تعاون مع شخص آخر.
• يسرق مريض الـ «كلِبتومانيا» من دون أي تخطيط أو نية مسبقة، حيث يلبي رغبته القهرية اينما كان سواء كان في متجر أو منزل صديق أو في حفلة أو على متن طائرة، أو حتى في دار عبادة.
• في كثير من الأحيان، لا يكون للأشياء المسروقة قيمة بالنسبة لمريض الـ «كلِبتومانيا»، ويكون باستطاعته شراءها.
• يقوم عادة بإخفاء الأشياء المسروقة، ونادرا ما يستخدمها، وقد يتبرع بها أو حتى يحاول إعادتها سرًا إلى المكان الذي سُرقها منه.
عوامل الخطورة
هناك عوامل خطورة معينة تزداد معها احتمالات الاصابة باضطراب هوس السرقة. ومن بين تلك العوامل أن معظم حالات ذلك الاضطراب تظهر غالبًا في مرحلة المراهقة أو البلوغ المبكر، ولكنه قد يتأخر ليبدأ في مراحل عمرية لاحقة.
تشتمل عوامل الخطورة الأخرى ما يلي:
• الوراثة الجينية: يزداد خطر الاصابة في حال وجود قريب من الدرجة الأولى مصاب بهوس السرقة أو اضطراب الوسواس القهري أو الإدمان على تناول الكحوليات أو المخدرات.
• الإصابة باضطراب عقلي آخر: يكون مريض هوس السرقة مصابا غالبًا بمرض عقلي آخر، مثل: الاضطراب ثنائي القطب، أو اضطراب القلق، أو اضطراب الأكل، أو اضطراب تناول المخدرات، أو أحد اضطرابات الهوية.
• ووفقا لاحصائيات عالمية، فإن ثلثي المرضى الذين تم تشخيص اصابتهم بهوس السرقة هم من الإناث.
مسببات... محتملة
حتى الآن لم بتم تحديد مسببات بعينها تقف وراء الإصابة بالـ «كلِبتومانيا»، لكن هناك نظرية ترجح أن اختلالات كيمياء الدماغ هي المسؤول عن ذلك. ومن بين المؤثرات المحتملة التي تلعب دورا في تحفيز ذلك الاضطراب النفسي والعقلي:
• نقص افراز السيروتونين في الدماغ: مادة السيروتونين هي ناقل عصبي يعمل على تنظيم الحالات المزاجية والمشاعر. ويشيع انخفاض السيروتونين لدى الأفراد المعرضين للاصابة بالسلوكيات الاندفاعية القهرية، بما في ذلك هوس السرقة.
• الإدمان على الدوبامين: لأن السرقة تستثير إفراز الدوبامين (ناقل عصبي آخر) في دماغ مريض الـ «كلِبتومانيا»، فإن المريض قد يدمن على تلك المادة المثيرة لمشاعر بالبهجة والسعادة، وهكذا يسعى الشخص إلى الحصول على تلك المشاعرمرة تلو الأخرى.
• اختلال أفيونيات المفعول في الدماغ: تنظم أفيونيات المفعول في الدماغ الحاجات الملحة. وفي حال عدم توازن هذه الأفيونات فإن الدماغ يحاول التعويض من خلال الاستسلام للرغبات القهرية الملحة التي من بينها السرقة.
• إصابات الدماغ: لوحظ أن بعض الاصابات الرضية والارتجاجية في بعض مناطق الدماغ تسهم في ظهور أعراض وسلوكيات اضطراب الـ «كلِبتومانيا» لدى بعض الأشخاص.
مضاعفات... وعواقب
في حال إهمال علاج اضطراب الـ «كلِبتومانيا»، فمن شأن ذلك أن يؤدي إلى مضاعفات وعواقب خطيرة على حياة المريض وحياة ذويه. فعلى سبيل المثال، قد يؤدي الشعور بالذنب والعار إلى دفع المريض إلى السقوط في مستنقع احتقار الذات، ومن ثم الاكتئاب الذي قد ينتهي بالإقدام على الانتحار.
ومن بين المضاعفات المحتملة الأخرى:
• اضطرابات التحكم في السلوكيات الاندفاعية والإدمانية الأخرى، كالقمار أو التسوق القهري.
• الإدمان على المخدرات والكجوليات.
• الإصابة بأحد اضطرابات الهوية الشخصية.
• اضطرابات أنماط الأكل.
• القلق
هل هناك وقاية؟
لأن المسببات الأساسية للاصابة باضطراب الـ «كلِبتومانيا» ما زالت غير معروفة على وجه اليقين، فإنه لا يمكن التنبؤ بحدوثه، وهذا يعني أنه من غير الممكن أيضا اتخاذ تدابير وقائية تفاديا للإصابة به.
لكن الأمر المؤكد هو أن لجوء المريض إلى تلقي العلاج في وقت مبكر من شأنه أن يسهم في منع تفاقم المشكلة، وبالتالي تجنيبه المضاعفات والسلبية المحتملة التي من بينها الوقوع تحت طائلة القانون والذهاب إلى السجن.
طرق المعالجة
حتى الآن، لم يتم تطوير أو اعتماد عقاقير صيدلانية لمعالجة اضطراب الكلِبتومانيا. لكن المعالجين النفسيين يلجأون عادة إلى الاستعانة ببعض العقاقير من أجل تخفيف أعراض أمراض أو اضطرابات نفسية مصاحبة أخرى كالوسواس القهري مثلا، حيث يصفون لمريض الكلِبتومانيا بعض مضادات الإكتئاب، أو أدوية تقوم بتثبيط امتصاص الأفيون في المستقبلات العصبية في الدماغ.
وبشكل أساسي، ما زالت معالجة الـ «كلِبتومانيا» ترتكز على استخدام أساليب المعالجة السلوكية الإدراكية التي تتم من خلال جلسات إرشاد ومشورة تساعد المريض على تحديد التصرفات المغلوطة والسلبية، والعمل على الاستعاضة عن الأفكار والسلوكيات الخاطئة بأخرى صحيّة إلى أن يتمكن من التخلص من ذلك الاضطراب.
«الهواجس القهرية»...
اضطرابات تُحرِّكها أوهام
من منظور علم النفس، يندرج اضطراب الـ«كلِبتومانيا» ضمن مجموعة من الاضطرابات التي يُطلق عليها معاً اسم «طيف الهواجس القهرية»، ويجمع بينها كونها تنبع من اختلالات ذهنية تضليلية تدفع صاحبها قهرياً إلى اعتناق تصورات أو الإتيان بسلوكيات معينة تعكس طبيعة الاضطراب النفسي ويعتمد عليها المعالجون في التشخيص.
في التالي نستعرض أبرز اضطرابات ذلك الطيف:
توهُّم التشوهات الجسدية
في الماضي كان يتم تصنيف اضطراب «توهُّم التشوّهات الجسدية» ضمن فئة الرّهاب المرضي (الفوبيا)، لكن جرى تعديل تصنيفه قبل نحو 10 سنوات كاضطراب وسواسي يجعل الشخص المصاب به تحت تأثير هاجس غير مبرر يوهمه بأن هناك عيبا أو تشوها في شكل أو معالم جسمه ككل أو شكل أحد أعضاء جسمه.
ويعاني المصابون بذلك الاضطراب من مشاكل نفسية تعرقل الحياة المهنية والاجتماعية، وقد تتطور الأمور أحياناً لتصل إلى درجة شديدة من الاكتئاب والقلق، أو تطور لاضطرابات قلق أخرى. ووفقا لتقديرات، فإن 1 إلى 2 في المئة من سكان العالم ينطبق عليهم واحد أو أكثر من معايير تشخيص اضطراب التشوه الجسمي.
التوهم الحِسّي
هو اضطراب نفسي ذو منشأ عصبي يعاني المصابون به من أعراض تقييدية تثيرها وتحركها أوهام غريبة تعتري جميع الحواس باستثناء حاستي السمع والبصر، وهذا يعني أن المريض لا يسمع هلوسات صوتية ولا يرى هلوسات بصرية. ويتسم هذا الاضطراب بعدم حدوث اختلالات في التفكير أو اضطرابات في المزاج، لكن توجد معه احتمالية وجود تخيلات من خلال حاستي الشم واللمس بمعنى أن المريض قد يشم روائح لا وجود لها وقد يشعر بملمس أشياء لا توجد إلا في مخيلته.
اضطرابات الأكل
اضطرابات الأكل هي اختلالات ذهنية تتجلى من خلال ممارسات غذائية غير طبيعية تؤثر سلبًا على الصحة البدنية والعقلية للشخص، ولكن هذه الاضطرابات لا تشمل السمنة المرضية. ومن أمثلة تلك الاضطرابات:
• النهم الشديد: يدفع المريض إلى التهام كميات كبيرة من الطعام في فترة قصيرة من الوقت.
• فقدان الشهية العصبي: لا يأكل الشخص إلا قليلًا إلى أن يصبح جسمه نحيلا وهزيلا جدا.
• النهم العصبي: يلتهم الشخص كمية كبيرة من الطعام ثم يستفرغها بالتقيؤ المفتعل.
توهُّم المرض
يتسبب هذا الاضطراب في إيهام المصاب به بأنه مصاب بأمراض عضوية معينة، ولا يقتنع بأنه لا وجود لتلك الأمراض مهما أكد له الأطباء ذلك. ويتصور الشخص أعراضا مرضية ثم يفسرها عقله على أنها تدل على أنه مصاب بمرض خطير. لذا فإن المصاب بهذا الاضطراب يكون دائم التردد على المستشفيات والأطباء، كما قد يشكو باستمرار من آلام متنقلة في أعضاء جسمه من دون أن يتوهم اصابته بمرض معين.
الانحراف الجنسي
الانحراف الجنسي (البارافيليا) هو مصطلح نفسي يشير إلى اضطراب يحرك في المصاب به شعورا بالاستثارة الجنسية إزاء أشياء غريبة ليست من المحفزات الجنسية المعتادة أو الطبيعية، كأن يستثار جنسيا إزاء قطعة أثاث أو شجرة. ويختلف الانحراف الجنسي عن الشذوذ الجنسي في أن هذا الأخير يشير إلى الممارسات الجنسية غير السوية مع أشخاص، وهي الممارسات التي تشمل شذوذات كالمثلية والسادية والمازوشية الجنسية.
الوحم المرضي
عندما تتوحم امرأة حامل فإنها عادة تشتهي طعاما معينا لبعض الوقت ثم يتلاشى ذلك الاشتهاء تدريجيا. أما المريض باضطراب الوحم المرضي فهو يشعر برغبة ملحة (لمدة شهر على الأقل) في أن يأكل واحدة أو أكثر من المواد الغريبة، كأكل أوراق الكتب أو التهام التراب أو قطع الأحجار أو الشعر أو مساحيق الغسيل والطباشير والصابون. ويظهر هذا الاضطراب بين الأطفال أكثر منه بين المراهقين والبالغين.
القلق الاجتماعي
هو اضطرابات يجعل الشخص المصاب به مرتبكا وقلقا جدا في أي مواقف تستدعي أن يتفاعل اجتماعيا مع أشخاص جدد لا يعرفهم أو عندما يواجه جمهورا. وتتجلى أعراض ذلك الاضطراب في شعور الشخص بتوتر مفرط يجعله يخطئ ويتلعثم إلى درجة أنه قد يصاب بالارتجاف والخفقان وضيق التنفس وجفاف الحلق والتعرق.
الاكتناز القهري
هو إفراط مرضي في الاحتفاظ بالمخلفات الشخصية التي لم تعد ذات فائدة (بما في ذلك النفايات أحيانا) ورفض التخلص منها، وذلك بسبب هاجس نفسي قهري يدفع الشخص إلى ظن أنه ستكون هناك حاجة إلى هذه الأشياء مستقبلا. ويُواجه الأشخاص المصابون بهذا الاضطراب مشاكل معيشية صعبة، حيث تتراكم الأشياء غير الضرورية في منازلهم بشكل مزعج، مما يجعل حياتهم مليئة بالفوضى. ويميل بعض المصابين بهذا الاضطراب إلى الاحتفاظ بعدد كبير من الحيوانات الأليفة في منازلهم على الرغم من عدم قدرتهم على رعايتها بالشكل الصحيح، فتكون نتيجة ذلك أن يتحول المنزل إلى ما يشبه الحظيرة القذرة.