منذ اعتلاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب كرسي حُكم بلاده، بل منذ فترة حملته الانتخابية التي أوصلته إلى ذلك الكرسي، دأب بعض معارضيه على اتهامه بأن نزعة «النرجسيّة» تسيطر عليه وبأنها تدفعه إلى ازدراء والتعالي على جميع منتقديه والسعي إلى تمجيد نفسه من خلال المبالغة في تضخيم أعماله العادية وتصويرها باعتبارها إنجازات غير مسبوقة!
جذوة تلك الاتهامات تجدّدت قبل بضعة أيام في أعقاب الاحتفال السنوي التقليدي الذي يقيمه البيت الأبيض لمناسبة «عيد الشكر»، حيث أجاب ترامب عن سؤال أحد الصحافيين عن الشخص الذي يود أن يشكره في ذلك اليوم، فقال: «أريد أن أشكر نفسي على أنني حققت قفزة فارقة هائلة لهذه الدولة (الولايات المتحدة). فهذه الدولة أصبحت الآن أقوى بكثير مما كانت عليه عندما توليت الحكم» وفي اليوم التالي مباشرة، أطلق ترامب تغريدة تويترية كرر فيها توجيه الشكر إلى نفسه حيث كتب: «كم هو رائع أن أسعار النفط تنخفض (شكرا لك أيها الرئيس T»، رامزاً لكلمة ترامب بحرف T المُفخَّم.
فماذا تعني «النرجسيّة»؟...وبماذا تتصف الشخصية المُتَنرجِسة؟...
وهل هناك حقا ما يُبرر اتهامات النرجسيّة التي يتم توجيهها بين الحين والآخر إلى الرئيس الأميركي ترامب؟
لا نهدف هنا إلى إعطاء إجابة عن هذا السؤال الأخير الذي يبقى محصورا بين المتجادلين حوله، لكن المقدمة السالفة كانت نوعاً من التمهيد الذي يهدف إلى اثارة الاهتمام بموضوع حلقة اليوم التي تسلّط الضوء على (النرجسيّة) عموما من منظور علم النفس... وللقارئ أن يتوصل إلى رأي في ذلك الضوء.
فإلى التفاصيل...
أصل التسمية... أسطورة إغريقية
وفقا لإحدى قصص أسطورة إغريقية قديمة، كان (نَركيسوس) شابا فائق الجمال، لكنه كان مفرط الاعجاب والاغترار بنفسه إلى درجة أنه كان يتجاهل ويتعالى على جميع البنات والحوريات العذارى اللواتي كن يقعن في غرامه ويتوددن إليه، وكان ذلك يحطم قلوبهن إلى درجة أنه دفع كثيرات منهن إلى الاكتئاب ثم الجنون والانتحار.
وتمضي الأسطورة قائلة إن حورية الانتقام التي كانت تُدعى (نيمِسيس) استاءت من غرور (نَركيسوس) فقررت أن تُعاقبه بجماله وأن تذيقه مرارة الكأس نفسها التي أذاق منها ضحاياه، فاستدرجته ذات يوم صيفي حار جدا إلى نهر صغير كي يشرب، وهناك راحت تشجعه على أن يتأمل انعكاس صورة وجهه الجميل على صفحة الماء.
وعلى مدار ساعات وساعات، ظل (نَركيسوس) عاكفا على تأمل جمال وجهه إلى أن افتُتِن به تماما بعد أن نسي أن ذلك لم يكن سوى انعكاس صورة وجهه هو. وفي نهاية ذلك النهار، غلب الإعياء والنعاس الشاب المفتون بنفسه إلى أن سقط في النهر رأسا على عقب وغرق ومات، فغرست الحورية (نيمِسيس) في موضع غرقه نبتة الـ«narcissus» المزهرة التي حملت اسمه منذ ذلك الحين... وهي النبتة التي تُعرف عربيا باسم «النرجس».
ومنذ ذلك الحين، بات أي انسان مغرور ومفْرِط في الاعجاب بنفسه يوصف بأنه شخص «نرجسي» أو «مُتنرجِس».
النرجسيّة... وعلم النفس
اكتسبت قصة أسطورة (نَركيسوس) شهرة عالمية واسعة النطاق منذ أن اتخذها مؤسس علم التحليل النفسي الشهير سيغموند فرويد ركيزة لإحدى نظرياته.
وكان فرويد هو أول من ابتكر من خلال نظريته تلك مصطلح «عقدة النرجسيّة» (narcissus complex) ليشير بها إلى الاضطراب النفسي الذي يصيب الشخص المعجب بنفسه إلى درجة الغرور المطلق الذي يُلهيه عن الشعور بالامتنان للذين يُعجبون به، بل تلهيه أيضا عن أن يُعجب هو بالآخرين أو حتى أن يتعاطف معهم، إلى أن يصبح متمحورا حول ذاته هو فقط وغارقا في تفخيمها والتباهي بها.
وهكذا، كان فرويد أول من استخدم مصطلح (النرجسيّة) في مجال علم النفس بمعنى «نزعة حُب الذات»، حيث رأى من خلال إحدى نظرياته أننا جميعا نولد ولدينا درجة معينة من تلك النزعة النرجسيّة التي تجعل الطفل يبدو أنانيا وميالا إلى الاستحواذ على كل شيء لنفسه بما في ذلك محاولته الاستئثار لنفسه بحب والديه.
كما رأى فرويد أيضا أن تلك الدرجة من النرجسيّة تكون طبيعية ووجودها مطلوب ومن الضروري إشباعها خلال مرحلة الطفولة، حيث إنها تشكل مرحلة من مراحل نمو الطفل نفسيا، لكنها تتطور وتصبح أكثر انضباطا مع مرور السنوات متشعبة إلى أشكال ترضي الذات، حيث يتفرع منها لاحقا حب الشخص للآخرين وحبه للمشاركة وللعطاء وغير ذلك.
لكن في حال عدم التعامل مع رغبات النزعة النرجسة بشكل سليم لدى الشخص في مرحلة طفولته – والرأي ما زال لفرويد – فإنه قد يلجأ إلى الانكفاء نفسيا على تلك النزعة ليتوقف بذلك عند مرحلة «حب الذات» الأولى التي ولد بها، وتكون نتيجة ذلك أنه يصبح مصابا باضطراب الشخصية النرجسيّة.
اضطراب الشخصية المُتَنرجِسة
في مجالي علم وطب النفس، يُشير مصطلح (اضطراب الشخصية المُتَنرجِسة) إلى حالة نفسية يستحوذ على المصاب بها شعور متضخم بتفوقه على الآخرين في كل شيء تقريبا، بما في ذلك الذكاء والجمال. وفي معظم الحالات، يتسبب هذا الاضطراب النفسي في جعل الشخص المُتَنرجِس متعطشا دائما إلى الحصول على مزيد من الاهتمام والإعجاب والإشادة من جانب الآخرين، بغض النظر عما إذا كان يستحق ذلك فعليا أم لا. وإذا لم يجد المُتَنرجِس ما يشبعه من إعجاب وثناء، فإنه يبدأ في امتداح نفسه بنفسه وقد يلجأ في الوقت ذاته إلى اتهام الآخرين بأنهم يتآمرون ضده من خلال تعمد إغفال مزاياه وتجاهلها.
لكن المفارقة تكمن في أنه خلف ذلك القناع من الإعجاب المتضخم بالنفس، تكون لدى الشخص النرجسي ثقة هشة بنفسه تجعله غير قادر على أن يتحمل أقل قدر من الانتقاد. ولا يتوقف نطاق ذلك الاضطراب عند ذلك الحد، بل يتجاوزه ليمتد إلى مساحات نفسية أوسع تتجلى من خلال سلسلة من الأعراض السلوكية التي يعتمد عليها اختصاصيو علم وطب النفس عند التشخيص.
وفي معظم الحالات يتسبب اضطراب الشخصية المُتَنرجِسة في تعريض المصاب به إلى مشاكل ومصادمات واحباطات في محيط علاقاته الحياتية اليومية، لكن في المقابل قد تكون النرجسيّة مثارا ومصدرا لإعجاب كثيرين في حالات معينة، وخصوصا عندما يكون المتصفون بها شخصيات عامة لا يتعامل معها الجمهور بشكل مباشر بل يشاهدها عبر بريق وسائل الإعلام فقط، كمشاهير السياسيين والفنانين والرياضيين.
عوامل... محتملة
حتى الآن، ما زالت مسببات الإصابة باضطراب الشخصية المُتَنرجِسة غير معروفة أكاديميا على وجه اليقين القاطع. لذا، فإن علماء النفس يتباحثون حول عوامل محتملة يرجحون أنها ربما تسهم مجتمعة أو متفرقة في الاصابة بذلك الاضطراب النفسي السلوكي.
ومن أبرز تلك العوامل المحتملة:
• عوامل اجتماعية: تتمثل في وجود اختلال في العلاقات بين الطفل ووالديه، سواء كان ذلك بسبب الإعجاب المفرط أو الانتقاد المفرط بدرجة لا تتناسب مع عمر وخبرات الطفل.
• عوامل وراثية: قد تنتقل بعض سمات النرجسيّة إلى الشخص من والديه عن طريق الوراثة الجينية.
• الكيمياء البيولوجية العصبية: من الممكن أن ينشأ اضطراب الشخصية النرجسيّة بسبب حدوث اختلال على كيمياء الدماغ بما يؤدي إلى نمط التفكير الذي يتجلى في صورة سلوكيات نرجسيّة.
ومن بين العوامل الأخرى التي رصدها اختصاصيو علم وطب النفس أن اضطراب الشخصية النرجسيّة يصيب الذكور أكثر من الإناث، ويبدأ غالبا في مرحلة المراهقة أو في أوائل سن البلوغ. وعلى الرغم من أن بعض العلامات الشبيهة بأعراض اضطراب الشخصية النرجسيّة قد تظهر لدى الأطفال حتى سن الثانية عشرة، لكن ذلك قد يكون جزءا من نمو شخصياتهم ولا يعني بالضرورة أنهم مصابون بذلك الاضطراب.
انعكاسات... وتأثيرات
بطبيعة الحال، يتسبب نمط تفكير وسلوكيات الشخص المُتَنرجِس في خلق انعكاسات وتأثيرات سلبية على علاقاته الاجتماعية سواء في محيط الأسرة أو في الدراسة أو في العمل. ومن أبرز أمثلة تلك الانعكاسات:
• تتعقد علاقاته مع من يتعامل معهم.
• يواجه أو يخلق عقبات في كل عمل جماعي يشارك فيه.
• تصيبه اعتلالات بدنية ونفسية بسبب وطأة ما يصارعه.
• قد يلجأ إلى الإدمان على تعاطي المخدرات أو الكحوليات في محاولة يائسة للتغلب على متاعبه النفسية.
• يكون فريسة سهلة للاكتئاب النفسي.
• إذا أخفق تماما في إشباع نزعته النرجسيّة أو تهدئتها على الأقل، فقد تسيطر عليه أفكار انتحارية.
طرق علاجية... غير دوائية
على صعيد معالجة اضطراب الشخصية النرجسيّة، هناك طرق عدة لكنها تعتمد على التحاور والتفاعل والانخراط الاجتماعي وجلسات المشورة النفسية أكثر من اعتمادها على العقاقير الدوائية. فحتى الآن لم يتم تطوير عقاقير دوائية مخصوصة لمعالجة ذلك الاضطراب النفسي في حد ذاته، ولا يستعان بالعقاقير إلا كعوامل مساعدة لمعالجة التعقيدات النفسية التي تنجم عادة عن ذلك الاضطراب، كالعقاقير المضادة للاكتئاب أو الإدمان على سبيل المثال.
ومن أشهر طرق معالجة اضطراب الشخصية النرجسيّة:
• المعالجة المعرفية-السلوكية: يعتمد فيها المعالج النفسي على اكتشاف وتحديد الأفكار والسلوكيات النرجسيّة الخاطئة لدى المريض، ومن ثم العمل على ازاحتها وإحلال أفكار وسلوكيات صحية مكانها.
• المعالجة الأسرية: تتألف من سلسلة جلسات علاجية تضم أفراداً معينين من أسرة المريض ومن أقربائه المقربين، حيث يتولى المعالج توجيههم وتشجيعهم على تحديد مسببات الاضطراب وإشراكهم في مساعدة المريض على الشفاء والتعافي تدريجيا.
• المعالجة بالنظراء: تعتمد على إشراك المريض في سلسلة حلقات نقاشية تضم عددا من نظرائه المصابين بالاضطراب ذاته، حيث يشرف المعالج على تشجيعهم على أن يتبادلوا التعبير عن مشاكلهم، كما يطرح عليهم ويناقش معهم طرقا وحلولا متنوعة ويشجعهم على تطبيقها عمليا سعيا إلى إخراج أنفسهم بأنفسهم في النهاية من دوامة النزعة النرجسيّة.
كيف تكتشف المُتَنرجِس من سلوكياته؟
هناك مجموعة من السلوكيات التي تعتبر أعراضا وعلامات دالة يمكن من خلالها اكتشاف اصابة شخص بـ(اضطراب الشخصية النرجسيّة). لكن لا يؤخذ أي من تلك الأعراض كمؤشر على النرجسيّة المفرطة إلا بشروط معينة من بينها تجاوزه مستوى معيناً، إلى جانب ملازمته لسلوكيات الشخص بوتيرة ومدة زمنية معينة. وليس شرطا أن تجتمع كل هذه الأعراض والعلامات في الشخص كي يتم اعتباره مصابا بذلك الاضطراب، بل يكفي أن يتم رصد بعضها لديه في اطار الشروط المذكورة آنفا.
في التالي أبرز تلك الأعراض والعلامات:
• متعطش دائما إلى تعبير الآخرين عن إعجابهم بكل ما يفعل أو يقول.
• يستحوذ عليه دائما شعور بأحقيته في أن يتصدر المشهد.
• يرى دائما أن من حقه أن يستحدم الآخرين كأدوات كي يحقق أو يصل إلى ما يريد، وأن من واجبهم أن ينصاعوا له.
• يلقي بلائمة الفشل على الآخرين في أي عمل جماعي يشارك فيه، حتى إذا كان واضحا جدا أنه هو المتسبب الأول في ذلك الفشل.
• عندما يُخفق في إقناع المحيطين به بأنه الأكثر تميزا وتفوقا، فإنه يلجأ إلى ترويج فكرة أن مستوى تفكيره أعلى من أن يدركه إلا أشخاص في نفس درجة تفوقه.
• ينعدم لديه تقريبا حس مراعاة احتياجات الآخرين أو التعاطف معهم.
• يتوهم أن جميع منافسيه يحسدونه ويحقدون عليه ويطمسون مزاياه.
• يتصرف بعجرفة وعنجهية، ولكنه يؤكد أن ذلك ليس سوى اعتزاز وثقة بالنفس.
• يحرص دائما على تحقير والتقليل من شأن انجازات نظرائه ومن سبقوه في المنصب أو العمل ذاته.
• ينشغل معظم الوقت بمهاجمة منتقديه، بما في ذلك إلصاق أوصاف مشينة بهم.
• يستشيط غضبا عندما لا يحصل على المعاملة الخاصة التي يرى أنه يستحقها.
• يشعر سريعا بالإهانة عند تعرضه إلى أقل قدر من الانتقاد أو عدم الاهتمام من المحيطين به.
• يجد صعوبة في ضبط انفعالاته وسلوكياته عندما يكون محبطا أو مستاء.
• يواجه صعوبة كبيرة في التكيف مع ضغوطات ومتطلبات التغيير السريع أو المفاجئ.
• يكون متقلب المزاج لأسباب بسيطة.
• يكون عرضة للسقوط في فخ الاكتئاب عندما يخفق تماما في اشباع شهوات نرجسيته.
• يتشكك عادة في نوايا وإخلاص الآخرين تجاهه.
معنى الـ«أنا»... في نظرية «فرويد»
في العام 1932، استحدث رائد علم التحليل النفسي الأشهر عالميا سيغموند فرويد 3 مصطلحات غير مسبوقة في إطار نظريته البنيوية التي افترض من خلالها أن هناك علاقات نفسية تفاعلية بين «الوعي» و«اللاوعي» في وجدان الإنسان، وأن شخصية المرء تتجلى من خلال محصلة التفاعلات بين هذه المكونات الثلاثة، وهي التفاعلات التي أوضح أنها تتم من خلال 3 مكونات تتألف منها النفس البشرية، ألا وهي:
1- الـ«هو» (تمثل الغرائز والرغبات الشهوانية الجامحة التي لا تريد ضوابط)
2- الـ«أنا العُليا» (تمثل الضمير الحي في أرقى حالاته)
3- الـ«أنا» (بمثابة الشرطي الذي يتولى ضبط العلاقة بين المكونين السابقين)
وفي ما يتعلق بـجزئية الـ«أنا» (Ego) تحديدا، رأى فرويد أنها ضرورية ومطلوبة بقدر معين كي يحب الإنسان ذاته ويضبط جموحها كي لا تتطرف صعودا إلى المثاليات المفرطة أو هبوطا إلى الرذائل المشينة، وأنها طالما بقيت عند ذلك القدر تجعل النفس في حال الاعتدال وتُبرز شخصية سوية وسليمة.
ووفقا للنظرية، تكمن الـ«أنا» في الجانب الواعي من العقل وتتفاعل مباشرة مع الواقع الخارجي تأثيرا وتأثُّرا على نحو متوازن بين الـ«هو» والـ«أنا العُليا» بحيث تراعي وتنسجم أفكار وسلوكيات الشخص مع شبكة الاعتبارات والضوابط الاجتماعية والأخلاقية والدينية.
وعلى هذا الأساس، فإن الاختلال يبدأ عندما تتضخم الـ«أنا» لدى الشخص وتنشغل عن دورها (المتمثل في احداث التوازن بين الـ«هو» والـ«أنا العُليا») فتكون نتيجة ذلك هي اختلال دوريهما، حيث ينفلت جماح الأولى ويتلاشى تقريبا دور الثانية، فتتجلى انعكاسات ذلك في صورة أفكار وسلوكيات اصطلح علماء النفس على أنها تجسد «اضطراب الشخصية النرجسيّة» الذي هو موضوع ومحور حلقة اليوم.