توهُّم المرض (hypochondria) هو اضطراب نفسي متفاوت الدرجات يندرج ضمن فئة (اضطرابات القلق)، ولكن في مجتمعاتنا الشرقية لا يتم رصده أو تشخيصه في معظم الحالات... إلى درجة أنك أنت شخصيا قد تكون مصاباً بإحدى درجاته من دون أن تدري، وخصوصا إذا كنت كلما قرأت أو سمعت عن تفاصيل مرض تساورك مخاوف من أنك قد تكون مصاباً به!
ومن بين الخصائص التشخيصية التي يتسم بها اضطراب «توهُّم المرض» أن المصاب به يسيطر عليه قلق لا مبرر له من أنه سيُصاب أو مصاب فعليا بمرض معين، وهو القلق الذي قد يتفاقم وصولاً إلى مستويات تدفع الشخص «المُتوهِّم» إلى أن يترسخ في عقله أنه بات مهددا بالموت.
فمثلاً: في حال شعور الشخص «المتوهم» بمغص معوي عابر فإنه قد يميل إلى تشخيصه من تلقاء نفسه على أنه قرحة أو سرطان في الجهاز الهضمي، وأي صداع قد يظنه سرطانا أو نزيفا في المخ، وأي ألم في الظهر قد يفسره على أنه انزلاق غضروفي، أما الإمساك فإنه قد يجعله يتوهم أن أمعاءه قد انسدت... وهكذا.
وفي الحالات الحادة، مهما خضع الشخص «المُتوهِّم» إلى فحوصات طبية تؤكد أنه غير مصاب بأي مرض عضوي، أو أن حالته المرضية لا تستدعي أي قلق، فإنه لا يقتنع ويظل متمسكا بقلقه الذي يدفعه إلى مواصلة التردد على أطباء آخرين، مع الاصرار على إخضاعه إلى مزيد من الفحوصات وعمل مزيد من التحاليل المختبرية، ظنا منه بأنه مريض فعلا لكن الأطباء غير قادرين على اكتشاف مرضه!
وفي حين أنه يتم أحيانا تصنيف هذا الاضطراب كأحد أشكال «الوسواس القهري» وأحيانا أخرى كاضطراب مستقل، ففي التالي نصطحبكم في رحلة استطلاعية لاستكشاف مزيد من المعلومات المتعلقة بـ «متوهِّمي المرض» في محاولة للإجابة عن السؤال المسطور في عنوان حلقة اليوم.
تعريفه... اصطلاحياً
هناك تعريفات اصطلاحية عدة لاضطراب «توهُّم المرض»، لكن في التالي أحد تعريفاته الأكثر شمولية:
• هو اضطراب نفسي المنشأ تحركه ظنون واهمة أو متضخمة بوجود مرض رغم عدم وجود تأكيد طبي يدعمها. ويتجلى ذلك في صورة شكوى الشخص المتوهم من أعراض جسمية ليس لها أساس عضوي. ويؤدي ذلك إلى أن ينحصر تفكير الشخص في ذلك الهاجس إلى درجة أنه قد ينفعل غاضباً على الطبيب الذي يؤكد له أنه ليس مريضاً بأي أمراض عضوية. وأحيانا قد يخضع الشخص المتوهم إلى فحوصات طبية تثبت أنه سليم معافى من الناحية الجسمية، لكنه سرعان ما يبدأ في الشكوى من أنه مصاب بمرض آخر ويبدأ دورة جديدة من الفحوصات الطبية. وقد يصل به الحال إلى أنه قد يطالب طبيبه بأن يجري عليه عملية جراحية رغم تأكيد هذا الأخير له بأنه لا يوجد ما يستدعي ذلك.
صنفان... متناقضان!
بشكل عام، ينقسم المصابون باضطراب «توهم المرض» إلى صنفين رئيسيين، وهما:
1- الصنف الباحث بكثرة عن الفحص الطبي: المنتمون إلى هذا الصنف يبالغون في التردد على الأطباء والمستشفيات مدفوعين بهواجس الأعراض التي تنتابهم وبخوفهم وقلقهم المتكرر من أنهم مصابون بأمراض عضوية. وهؤلاء يصممون عادة على إخضاعهم لفحوصات تشخيصية بالأشعة والمناظير وغير ذلك على الرغم من تأكيد الطبيب أنه ليس هناك ما يستدعي ذلك.
2- الصنف المُتهرِّب من الفحص الطبي: على الرغم من أن المندرجين ضمن هذا الصنف يعانون أيضا من هواجس وقلق كونهم مصابين بأمراض خطيرة ومميتة، فإنهم يختلفون عن الصنف الأول في كونهم يتفادون زيارة الأطباء والمستشفيات، ويرجع ذلك إلى أنهم يغلب عليهم الخوف الشديد من لحظة مواجهة «الحقيقة الصادمة» التي يتوهمون أن الطبيب سيكتشفها ويعلنها.
علامات... وأعراض
يميل المصابون باضطراب توهُّم المرض إلى تكرار الشكوى من أوجاع وآلام لا أساس لها عضويا. وإلى جانب ذلك، يلاحظ أنهم يبالغون في السعي إلى تعاطي جميع المعالجات والأدوية الطبية الممكنة على الرغم من عدم احتياج أجسامهم إليها.
ووفقاً لما جاء في الدليل الإحصائي والتشخيصي الخامس للجمعية الأميركية للطب النفسي، فإن أعراض توهُّم المرض تشمل التالي:
• تتسلط على عقل الشخص فكرة أنه مصاب بمرض خطير، أو أنه عرضة للإصابة بمرض خطير.
• لا تظهر على المتوهم أعراض تدل على المرض الذي يتوهمه؛ وحتى إن وجدت فإنها إما أن تكون أعراضا زائفة أو أعراضا بسيطة ناجمة عن اعتلال بدني غير خطير.
• حتى في حال وجود أعراض حقيقية تشبه أعراض المرض الذي يخشاه الشخص المتوهم، فإن قلقه الناجم عن ذلك يكون أكبر بكثير مما يستدعي الأمر.
• يشعر الشخص بالتوجس الشديد إزاء أي تغيير طفيف قد يطرأ على جسمه، حتى وإن كان مجرد رشح أنفي بسيط أو مجرد ارتفاع طفيف في درجة حرارة الجسم.
• يميل الشخص إلى الإكثار من فحص جسمه بحثاً عن علامات مرضية، كأن يقيس ضغط دمه أو نبضه أو حرارة جسمه مرات عدة في اليوم الواحد، وقد يعتقد أن أجهزة القياس بها خلل إذا جاءت النتائج طبيعية.
• يتغير مصدر قلق الشخص من مرض إلى آخر مع مرور الوقت، كأن يسيطر عليه هاجس إصابته بمرض السكري ثم يتخلى عنه بعد مرور بضعة أسابيع لينشغل بهاجس إصابته بالسرطان مثلا، وهكذا.
• يتم تشخيص اضطراب «توهم المرض» لدى الشخص إذا لوحظ استمرار الأعراض لديه لمدة لا تقل عن 6 أشهر، شريطة أن يتأكد اختصاصي أو معالج نفسي من أن ما يعاني منه الشخص ليس اضطرابا نفسيا آخر كأحد اضطرابات الوسواس القهري أو إحدى الحالات الذهانية.
• أحيانا قد يكون اضطراب «توهُّم المرض» أحد الأعراض الملازمة لعدد من الأمراض النفسية، كالفصام والاكتئاب والهستيريا والوسواس القهري.
مسببات... وعوامل مساعدة
هناك مسببات وعوامل مساعدة كثيرة قد تقف وراء نشوء اضطراب توهُّم المرض، ومن أبرزها ما يلي:
• العدوى النفسية: فبعض الناس يكون لديهم استعداد نفسي لتوهم المرض بمجرد أن يسمعوا أو يقرأوا عنه أو حتى يشاهدوا عملا تمثيليا فيه قصة شخص مصاب بمرض معين. وتزداد احتمالات اصابة بالتوهم لدى أولئك الأشخاص إذا أساؤوا فهم أو تفسير ما قرأوه أو سمعوه.
• في حالات الشعور بالقلق الشديد من تهديدات محتملة، ووجود مشاعر عدوانية مكبوتة.
• الفشل في الحياة الاجتماعية: وبصفة خاصة الفشل في الحياة الزوجية، وشعور الشخص بانعدام قيمته. وفي مثل تلك الحالات يكون توهُّم المرض بمثابة محاولة للهروب من عواقب الفشل عن طريق كسب تعاطف المحيطين.
• وقد تنتقل العدوى النفسية إلى الطفل من الكبار المحيطين به (وخصوصا والديه) إذا كان أحدهم مصابا بتوهم المرض، ويفرط في الاهتمام بالطفل ظنا منه أنه مصاب بمرض جسدي.
• الإصابات المبكرة: من العوامل المهيئة أيضاً أن يتعرض الشخص في طفولته لإصابات مرضية متكررة تدفع والديه إلى أن يغدقا عليه الاهتمام الزائد، فيغرس ذلك في نفسه هاجس التوهم المرضي.
عوامل الخطورة
مثلما هو الحال بالنسبة لأي مرض عضوي أو نفسي، هناك عوامل خطورة معينة قد تسهم أو تلعب دورا في إصابة الشخص بإحدى درجات اضطراب «توهُّم المرض». ومن أبرز العوامل التي رصدها اختصاصيون نفسيون نذكر التالي:
• الوراثة: حتى الآن ليست هناك احصائيات ترصد نسب الدور الذي قد تلعبه الوراثة في هذا الاضطراب، لكن الأمر شبه المؤكد هو أن الاستعداد للإصابة يكون موروثا في الأساس.
• الجنس: من خلال احصاء جنس المترددين على العيادات النفسية طلبا للعلاج من توهم المرض، لوحظ أن الإناث أكثر من الذكور. لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الإناث هن الأكثر إصابة في المطلق، وذلك لأن من المحتمل أن يكون السبب هو أن الذكور أقل سعيا إلى طلب العلاج.
• العمر: من الممكن أن يصيب اضطراب «توهم المرض» كل الأعمار، لكن الملاحظ أن معظم الاصابات تبدأ بعد بلوغ سن الأربعين.
• الظروف الاجتماعية: وجدت دراسات أن معدلات الاصابة بتوهم المرض ترتفع بدرجة أكبر بين فئات اجتماعية معينة كالعاطلين عن العمل، وذوي الاعاقات الجسدية الحادة، والمحرومين عاطفيا، والأقل تعليماً، والمتزوجات قسريا.
كيف تتعامل مع «توهُّم المرض»؟
سواء كنت تعلم أنك مصاب فعلياً بإحدى درجات «توهُّم المرض» أو كنت ترغب في وقاية نفسك من ذلك الاضطراب أو كنت تتعامل مع شخص مصاب به، فإن الإرشادات التالية يمكن أن تكون مفيدة:
عندما يتعلق الأمر بك:
• لا تقرأ عن اضطراب «توهُّم المرض» والاضطرابات النفسية المشابهة إلا من مصادر علمية موثوقة ومعتمدة.
• لا تُكثر من الذهاب إلى الأطباء كلما شعرت بأي توعك طفيف.
• لا تقم بتشخيص اصابتك بأي مرض عضوي من تلقاء نفسك، بل استشر طبيباً متخصصا. وأيا كان قرار الطبيب، فعليك أن تثق به.
• لا تصمم على أن تطلب من طبيبك إجراء أي فحوصات تداخلية كالعمليات الاستكشافية بالمناظير، فالطبيب يعلم متى ينبغي اجراء مثل تلك الفحوصات التشخيصية.
• إذا كنت تواجه صعوبة في تنفيذ النصائح السابقة، فعليك بأن تبادر إلى استشارة طبيب نفسي متخصص، ولا تكابر بأنك غير مصاب بأي اضطراب.
عندما يتعلق الأمر بتعاملك مع «مُتوهِّم»:
• أظهر له التعاطف والاهتمام باعتدال ولا تنزعج من قلقه المتكرر، فهو يحتاج منك إلى الطمأنة في كل مرة.
• عندما يشكو من أعراض بدنية، ساعده في الوصول إلى طبيب مناسب ليستكشف ما إذا كان هناك أساس لشكواه.
• تفادى توجيه اللوم إليه أو تحميله مسؤولية تفاقم أوهامه المرضية، وتجنب اتهامه بضعف الإيمان أو الثقة أو الوعي.
«التوهُّم» والدَجَل... خليط خطير!
صحيح أن اضطراب «توهُّم المرض» لا يؤدي إلى مضاعفات مباشرة في حد ذاته، لكنه قد يسبب للمصاب به مشكلات سواء في علاقاته الاجتماعية أو علاقاته في العمل. ويضاف إلى ذلك أن المصاب يكون فريسة لمشاعر الشك والقلق التي تنهشه نفسيا وتؤثر سلبيا على استمتاعه بحياته.
وفي ظل نقص مستوى الوعي بحقيقة الاضطرابات النفسية في منطقتنا العربية خصوصا، يكثر لجوء المصابين باضطراب «توهم المرض» إلي الدجالين والمحتالين الذين يزعمون أن لديهم طرقاً غير تقليدية لاكتشاف ومعالجة الأمراض المستعصية التي يفشل الأطباء في تشخيصها ومعالجتها.
وتكمن المشكلة في أن التقاء مرضى «التوهُّم» مع ممارسي الدجل يشكل خليطاً شديدة الخطورة، وذلك لأن أولئك الدجالين يجدون ضالتهم في ذلك المريض الذي بدوره يجد عندهم ما يشبع هواجسه، وهكذا يصبح كل واحد منهما تربة خصبة لترعرع الآخر فتكون نتيجة ذلك أن يبتز الأول أموال الثاني في مقابل أن يصف له علاجات اعتباطية قد تؤذيه أو تصيبه بأمراض حقيقية.
والطريقة الأمثل للتصدي لهذا الخطر تكمن في العمل على نشر وزيادة مستوى التوعية بحقيقة هذا الاضطراب النفسي الذي يوهم المصاب به بأمراض لا وجود لها أصلا في جسمه.
مشاهير... في «دوّامَة الأوهام»!
لأن ثقافة الوعي بالاضطرابات النفسية سائدة في المجتمعات الغربية إلى درجة لا تجعل أحدا هناك يشعر بالخجل من الإفصاح عن أنه مصاب بأحد تلك الاضطرابات، فإن هناك عشرات من المشاهير الغربيين أقروا علناً في مناسبات عدة بأنهم سجناء في دوَّامَة اضطراب «توهُّم المرض». ومن بين أولئك المشاهير، اخترنا لكم الأسماء التالية:
• أنجيلينا جولي: هواجس «توهُّم المرض» هي التي دفعت جولي إلى استئصال نهديها ورحمها ومبيضيها جراحيا لمجرد خوفها من أن تصاب بالسرطان في أنسجة تلك الأعضاء الأنثوية. فلم يكن قد تم تشخيص جولي إصابتها بأي أورام سرطانية في تلك الأنسجة، لكن توهماتها النفسية طاردتها وصولاً إلى عمليات الاستئصال.
• كيت ميدلتون: تتمتع دوقة كيمبردج وزوجة الأمير ويليام بجمال فائق، لكن تلك الأميرة بات معروفا عنها أن لها نصيبا من اضطراب «توهُّم المرض»، حيث إنها كانت تصمم خلال فترة حملها على نقلها فورا إلى المستشفى عندما كانت تشعر بالغثيان العادي الذي يصيب أي امرأة حامل، كما أنها تهرع إلى الطبيب لأبسط الأسباب، بما في ذلك شعورها بصداع طفيف أو أرق عابر أو إجهاد بعد سفر طويل نسبيا.
• أدولف هتلر: كان كثير القلق إزاء صحته إلى درجة أنه كان يحرص على أن يفحصه أطباؤه يوميا حتى إذا لم يكن هناك مبررات لذلك. وكان كثيرا ما يشكو من أنه يشعر بأعراض جسدية معينة، ثم يفحصه أطباؤه فلا يكتشفون أي سبب لتلك الأعراض. والطريف في الأمر أنه كان يوبخ الأطباء بعنف عندما كانوا يبلغونه بأنه غير مصاب بأي مرض عضوي، ولذلك فإنهم بدأوا لاحقا في اللجوء إلى مجاراته من خلال وصف أدوية وهمية أو بعض الفيتامينات أو المهدئات العصبية كي يتقوا غضبه!
• تشارلز داروين: كان عالم التاريخ الطبيعي البريطاني وصاحب نظرية النشوء والتطور يعاني بشكل مستمر من هواجس المرض، وكان دائم الحرص على رصد أي أعراض تظهر على جسمه إلى درجة أنه كان يحتفظ بسجل لمتابعة تلك الأعراض، بما في ذلك تطورات انتفاخاته المعوية وتدوين أوقات وعدد مرات إخراجه للريح!
... إجابة التساؤل
في ضوء ما استعرضناه من معلومات عن اضطراب «توهُّم المرض»، من المنطقي الآن أن نتأمل التساؤل المطروح في عنوان حلقة اليوم، بمعنى: هل ينبغي تصنيف المصاب بذلك الاضطراب كمريض أم كمتمارض؟
الإجابة ببساطة هي أن مثل هذا الشخص مريض فعليا لكن مرضه نفسي. إلا أن المشكلة تكمن في أنه يبدو متمارضاً في نظر مَنْ لا يعلمون طبيعة ما يعانيه ولا يدركون أنه لا يتظاهر بأنه مريض بل إنه يتصور أنه كذلك.
ويكتسب ذلك التساؤل أهمية مهنية وأخلاقية خاصة عندما يتعلق الأمر بنظرة أرباب العمل إلى الموظف المصاب باضطراب «توهم المرض»، حيث إن ما يحصل في معظم الحالات هو أنهم قد يصنفونه كمتمارض ويعاقبونه إداريا على هذا الأساس.
ولهذا، فإنه من المهم جدا أن تعمل الجهات المعنية على إدراج ونشر التوعية بحقيقة هذا الاضطراب النفسي في ثقافة وأدبيات الموارد البشرية الخاصة بشركات منطقتنا العربية، بحيث يتسنى التمييز بين الموظف المتمارض فعليا والموظف المصاب بـ«توهُّم المرض».