السؤال الذي طالما دار في الأذهان، من دون الوصول إلى إجابة شافية ومقنعة مفاده: هل من الممكن صناعة مبدع حقيقي يساهم في الحياة الثقافية، وينتج اعمالاً ذات أثر على المجتمع، من خلال انتسابه للدورات وورش العمل، التي تقام خصيصا لتعلم الفنون الإنسانية مثل الشعر والقصة القصيرة والرواية وكتابة النصوص المسرحية. بالإضافة إلى الورش والدورات التي تنظمها بعض الجهات والمتعلقة بالفنون الجميلة من نحت وتشكيل وخزف وغيرها؟!
إنه السؤال الذي أراه شاخصاً في أذهان المولعين بالأدب والفنون، العاشقين للكلمة والألوان، إلا أنهم غير قادرين على إتقان مثل هذه الفنون الإنسانية، والتمكن من أدواتها بالشكل الذي يريح أنفسهم التواقة إلى الكتابة والرسم بأسلوب احترافي أو على الأقل فيه مقدار من الحرفية والتميز، يضمن لصاحبه أن يكون أديباً أو فناناً تشكيلياً.
إن تناول هذا السؤال يجعلنا في حيرة شديدة، يصعب على أي متأمل فيه الخروج من مأزقه، لان الصورة تبدو غير واضحة بالقدر الكافي لفهمها، بأبعادها النفسية المختلفة في جوانبها ومضامينها، فهي من حيث الأيدلوجية والمنطق تبدو غير مفيدة إلا لمن يمتلك الموهبة، إلا أنه لم يقدر على اكتشافها، لقلة الخبرة، أو عدم الاطلاع والصبر على تحصيل المعرفة، مما جعل هذه الموهبة عاجزة عن دفعه إلى أتون الكتابة، كون هذه الموهبة لم تحظ بالقدر الكافي من التميّز والمرونة، ومن ثم فإن - هذا الشخص الموهوب - لا يستطيع أن يمرّن نفسه على الكتابة، لأسباب تتعلق به شخصياً، وبالتالي فإنه يرى في هذه الدورات وورش العمل مكاناً ملائماً يستطيع من خلاله تعويض الخلل، الذي يؤثر على استلهامه للإبداع والصعود به إلى فضاءاته الحالمة.
بينما تظل هذه الدورات والورش متكأ غير مفيد لمن لا يمتلك الموهبة، أو أن توسمه فيها ليس إلا وهما، فهو فقط محب للإبداع، وحبه له أعطاه هذا الانطباع، وجعله يمنّي نفسه أن يكون أديبا أو فنانا تشكيليا، ومن ثم فإن انضمامه إلى تلك الجلسات التعليمية قد تعطيه معلومات فقط، ولكنها لن توهّج فيه القدرة الإبداعية، التي هي في الأساس غير موجودة، ولن تساعده على الكتابة والرسم بالشكل الذي يجعله قادرا على المنافسة.
وفي المقابل هناك من الكتاب والمفكرين والنقاد من يرى في الموهبة، عنصرا هلاميا في محتواه الموجود على أرض الواقع، وأن المحك في ذلك تحدده الرغبة أوالعشق، وهذا الأمر لا يقف عند عمر بعينه، وأدلتهم على ذلك في أدباء وفنانين كثر لم تكن لديهم حتى الميول الأدبية أو الفنية، في مراحل مبكرة من أعمارهم، ولكن حينما جاءت اللحظة الفاصلة أصبح لديهم القدرة على الإبداع، والنبوغ، هذه نظرة قد تكون موجودة بالفعل، ولكن ما هو عام أن الكتابة الأدبية والفنون الجميلة بكل أشكالها، تعد ملمحا إنسانيا تتفتق من خلالها موهبة لا يمكن تحديد مصدرها أو المرحلة العمرية التي ستظهر فيها، فهي مسألة ليس في استطاعة أحد فك لغزها، أوتحديد اتجاهاتها وأوقات ظهورها.
ورغم ذلك فإن تشجيع إقامة مثل هذه الورش والدورات بات أمراً ضرورياً ومهماً في ظل سيطرت القبح والرداءة على الحياة بشكل عام، ليس بسبب الفضاء الإلكتروني، الذي نحمله ما لا يحتمل، ولكن لأن المزاج العام قد تغيّر، خصوصا في مجتمعاتنا العربية، وأصبحت الشؤون المادية هي المسيطرة على الحياة، تلك الشؤون التي تدخل فيها المادة والمصلحة وتبادل المنفعة، وغيرها، وحينما ظهر الإنترنت بمواقعه المختلفة، بدأ الانتباه إلى قيمتها، ومن ثم الترويج الفج وغير المنطقي لمثل هذه الشؤون المادية، ومن ثم فقد تنافست الجودة مع الرداءة... كي تنهزم الجودة في الجولة الأولى، ليصبح الانتصار في اتجاه الرداءة.
وسواء قلنا إن الدورات وورش العمل التي تسعى إلى التدريب على الكتابة والرسم، مفيدة أو غير مفيدة، أو أنها فقط تقام من أجل التعليم وكشف المواهب، وأنها لا تعطي الموهبة، أو قلنا إنها مضيعة للوقت، إلا أننا في النهاية بحاجة إليها، كما أننا بحاجة إلى أي عمل ثقافي يطمح إلى تغيير الأمزجة، التي انجذبت بفعل الزمن وتغيراته إلى الرداءة.