لم يَسْبق أن كان الشرق الأوسط «البركانيّ» على هذا القدْر من الغليان فوق فوهاتٍ مفتوحةٍ وملاعب نارٍ وتشققاتٍ تُنْذِر برمادٍ هائل... في سورية قرْعُ طبولِ الحرب على أشدّه وكأنّ معركة إدلب البداية لا النهاية، وفي العراق صراعٌ إيراني - أميركي بلا هوادة و«على المنخار» لخطْف «الكتلة الأكبر» والنفوذ الاكبر، وفي اليمن الذي دشّن التاريخ باكراً تَمْضي الجغرافيا في جعْله بؤرةً تزداد اشتعالاً، وفي ليبيا يفرّ السلام والدم كما المساجين، وفي إيران التي تمدّ أذرعها بعيداً صار نوفمبر الأميركي لناظره قريب، أما البحرُ المتوسّل عبور الطيور المُهاجِرة، فأصبح مستودعاً عائماً لحاملات الطيران ولترساناتِ ميني حربٍ كبرى، أقلّه بالمناوراتِ وبـ... النظارات.
وسط هذا المدارِ اللاهب يترنّح لبنان فوق صفيحِ مأزقٍ سياسي - دستوري يحتجز عمليةَ تشكيلِ الحكومة الجديدة منذ أكثر من مئة يوم، وهو العنوان الذي يختزل صراعاتٍ داخليةً وخارجيةً على غرار القتال الدائر بالسلاح الأبيض وبأكثر الأسلحة الفتاكة في عموم ساحات المنطقة المصابة بالتململ خلف خطوط سايكس - بيكو وبأحلامٍ كالكوابيس لتصدير ثوراتٍ وبعْث امبراطوريات واسترداد أدوار فوق أراضٍ محروقة يحوم شبَحُها حول لبنان الذي كان بكّر في تدشينه الصراع المترامي في الإقليم يوم اغتيل رئيس الحكومة الأسبق والزعيم ذات البُعد الإقليمي والدولي رفيق الحريري بأكثر من طن من المتفجرات في العام 2005 قبل ان تكرّ سبحة القتل السياسي على نطاقٍ واسع.
ورغم الدعاية الهشّة عن أن المصاعب التي تواجه ولادة الحكومة في بيروت مردّها الى شهياتٍ مفتوحة على الاستيزار في إطار لعبةِ المُحاصَصاتِ بين القوى السياسية، فإن القطَب المخفية التي تحول دون التوافق على الحكومة العتيدة حتى الآن ترتبط بالصراع على اقتسام كعكة السلطة في بلادٍ تحكمها توازناتٌ «جوْهرجية» وعلى الموقع الاقليمي البالغ الحساسية للبنان، وهما وجهان لـ «صراعٍ واحد» كانت التسويةُ السياسيةُ التي أنهتْ الفراغ الرئاسي جعلتْ منه «صراعاً نائماً» بلجوئها الى تفاهماٍت أقرب إلى ربْط نزاع، وباستخدام النأي بالنفس كـ «ورقة توت» تكاد أن تذهب أدراج الرياح.
فالتطوّر الأهمّ الذي أعاد لبنان الى «عيْن العاصفة» كان خَرَج من صناديق الاقتراع في مايو الماضي مع النتائج التي اعتَبَرَها تحالف الرئيس ميشال عون و«حزب الله» انتصاراً موصوفاً «دَفَنَ التسوية» في بُعديْها الداخلي والإقليمي. وليس أدلّ على ذلك من الضغوط التي تُمارَس على الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري لدفْعه الى الانصياع لشروطهما في التأليف او الاعتذار وتحضير المسرح السياسي لجدول أعمال يُقْحِم لبنان الرسمي في لعبة المَحاور، تارةً مع الترويج لتحالفاتٍ «مَشْرقية» وتارةً بالدعوة الى معاودة النظر بالتموْضعات الاستراتيجية للبنان، أي بإبعاده عن السعودية والولايات المتحدة.
الحريري، الذي يُعانِد بصمْتٍ، عَمَدَ الى تقديمِ صيغٍ تجريبيةٍ لحكومةٍ يَعتقد أنها أفضل المُمْكن، كان آخرها الأثنين حين وضع بين يدي عون مسودة حكومة «منزوعة الأسماء» وتقتصر على توزيعةٍ للحقائب على القوى المرشّحة لدخول الحكومة، تحفّظ عليها الرئيس واحتفظ بها بعدما أبلغ الى الحريري ملاحظاته، ولا سيما أنها لا تأخذ بالأسس والمعايير التي كان حدّدها عون لتشكيل الحكومة والتي «تقتضيها مصلحة لبنان».
ورغم أن الحريري عاود أمس اتصالاته، والتي من المرجح أن تراوح مكانها مع انسداد الأفق أمام أي اختراقٍ محتمل في المدى المنظور، فإن اللافت أن أزمة الثقة بلغتْ أوجها مع السيناريوات التي يتم الترويج لها وغالبيتها تضمر محاصرة الرئيس المكلف بمعادلةِ إما رفْع الرايات البيض والإتيان بحكومةٍ تعكس الانقلاب الذي جسّدتْه نتائج الانتخابات النيابية ويحظى فيها «حزب الله» بـ «التحكُّم والسيطرة»، وإما إخراجه من اللعبة بمزيدٍ من الضغط السياسي أو عبر كمينٍ يُنْصَب له في البرلمان بحجْب الثقة عن حكومةٍ يُستدرج إليها كأقصر الطرق لسحْب التكليف منه.
وثمة مَن يعتقد أنه لم يحِن الوقت بعد لحسْم الموقف من الحريري، الذي يحتاجه تحالف عون - «حزب الله» كعنوانٍ للاستقرار بالنسبة الى المجتمعيْن العربي والدولي، ولكن بعد معركة إدلب وفي ضوء مآل الصراع على الحكومة في العراق، وفي الطريق الى العقوبات النفطية على إيران، يمكن ان يتّضح الخيط الأبيض من الأسْود في بيروت.
في سياق اخر، عاد أمس، 541 نازحا سوريا عبر مركز المصنع، إلى بلادهم.