تحظى العلوم المعرفية المتعلقة بنمو العلاقات الإنسانية والحوار المجتمعي باهتمام عند المتخصصين بالدراسات الإنسانية والتربوية والاقتصادية والاستراتيجية خاصة، عبر جهد علمي يتضمن معطيات وأبحاثا ونتائج دراسات لمقاربة الواقع بالنظرية الظاهرة والمفاهيم الحاصلة والعادات والتقاليد ومختلف التصرفات المجتمعية لإيجاد الحلول بمعطيات علمية قائمة على التساؤل والحوار والمعرفة... بم حدث؟ ولماذا حدث؟ وما سيترتب عليه من تداعيات لغياب المصارحة والشفافية وعدم التعامل بمرونة بين أطياف المجتمع للتفاوت الطبقي والطائفي والمناطقي وهذه مجرد عناوين محدودة ومبسطة من عمق ألم الحقيقة والواقع.
فالحوار وتوسيع دائرة المعارف المتعددة هي أبواب وسمة تميز المجتمع الحي المؤمن بالتنوع الثقافي والديني والعرقي، وهي حافز لبناء وترابط وحدة المجتمع التي تتجلى مرتكزاته في أعلى المستويات لتحقيق كرامة الإنسان والقبول بالتعددية المجتمعية والتمسك بروح العقيدة والقانون وتفعيل دائرة الحوار الديموقراطي مع الأخذ بعين الاعتبار قبول الاختلافات البشرية التي تدفع بعجلة التغيير الإيجابي والتكامل.
فمساحة الحوار المتكافئ بين المتحاورين هي السياق الحقيقي والطبيعي لمستقبل التعددية الدينية والثقافية ورسم تاريخ الأجيال المقبلة بمبدأ الحوار وهو من الموضوعات الفلسفية السياسية التعليمية والتربوية التي تدرس في علم الإدارة والسياسة
والاقتصاد والعلوم الإنسانية المرتبطة بنمو حركة المجتمع الحي مع تحفظي على هذه العبارة، فنظريات التواصل والانفتاح والتعايش والحوار بفوقية والادعاء أننا الأعلم والأصح والأفضل في قائمة البشر، وعمل الإسقاطات الدينية والتقاليد والاعراف على العلوم الحديثة.
أقف واضعاً علامات استفهام لماذا هذه الإسقاطات؟ هل هي ضعف فينا أو تبرير لتطرفنا وتمزقنا وعدم قبولنا بالتصحيح ومراجعة الموروث التاريخي الذي جعلنا أمة في أحسن الأحوال مسلمة بالهوية منتمية الى الأرض التي نقطن فيها؟
لطالما فكرتُ كثيراً فيما نقرأ ونكتب وأنا أبحرُ فيما يقع بين يدي من موضوعات تنمي الحوار و التربية السلوكية القيمية التي تُثير الاهتمام بالمعرفة المتعددة مع علمي بالمقارنة بين من يتخذ الحوار والانفتاح والتواصل والاتصال المجتمعي منهجاً وبيئةً حاضنة له من عدمه، لوجود أوجه مختلفة تمثل الجانب السلبي في مجملها والتي تؤدي إلى الاختلاف ونشوب نزاعات على أساس الهوية الثقافية أو الدينية و لظروف تحتل البنية «الطائفية» حاضنة له ركنا مهما في عدم نمو ومسيرة تطور وحدة المجتمعات.
والتساؤل الذي يَغيب أو يُغيب أحيانا هو: لماذا أصبحت حياتنا تسير بصيغة الأفعال والأوامر والنواهي؟ «والينبغيات» وجلد الذات وعبارات، ماذا... وأين... ومتى...وكيف... ولو... و«لازم» ويجب ألّا تفعل وتفعل؟ وصيغة الضمائر والكلام العام والموجه من دون أن ندرك الحقيقة التي لا تعوض إلا بالحوار المبني على العلم والمعرفة المتعددة والسعي لاستكشاف ما نحن عليه اليوم من ضياع وشتات لوحدة المجتمع وخمول العقل وعدم قراءة الواقع والادعاء بأننا من يمتلك هذه الحقيقة المطلقة وبٌشِّرنَا بأننا الفرقة الناجية وغيرنا في ضلال بعيد موت وعذاب ونار سعير.
فهل نحن حقا تقودنا هذه العبارات السوداوية وتسيطر على أهدفنا ورسالتنا في الحياة؟ وتكون مبرراً لتقاعسنا وعدم تحمل مسؤوليتنا اتجاه الإخفاقات الفكرية المعاصرة في التصدي بمنهجية إصلاحية ومسؤولية مجتمعية إنسانية ودينية ذات وزنٍ في البناء القيمي الوجودي الحضاري للوصول لمناط يعرفه المتلقي و امتهنه الكاتب والمفكر والخطيب والسياسي والإداري والاقتصادي. فالشاعر يحلق بملكته الأدبية وصفاً وابداعاً ونقداً، والروائي يكتب بأحاسيس ويختار العبارات لحل مشكلة الصمت أو الشخصيات المجهولة ويستخدم الكناية والاستعارة ويختصر الزمن والأحداث بكلمات رفيعة المستوى، والسياسي والاقتصادي مؤدلج حقاً ما يقول أو زيفا.
ويبقى الواقع في حكايات الأجيال المقبلة بصعابها وتحدياتها وبناء قدراتها وتعزيز ثقتها بالله وبإمكانياتها وطاقاتها البشرية
فالحوار المنتج للمعرفة المتعددة والتنمية المستدامة ومساحة الحرية والانفتاح على الحضارات وأطياف المجتمع هو بمثابة تذكير بقانون أهمية التعايش المشترك وتجريم الكراهية، لتحقيق السِلم والسَلام الدائم وانقاد الأجيال المقبلة من براثن ويلات النزاعات والصراعات الانتهازية واهمال المصلحة العامة والتعاطي بمبدأ القبيلة والطائفة والمنطقة فتزداد مساحة الشتات ويتعذر حلها، وتكون الضحية الأجيال المقبلة التي تمثل المشهد العام للمجتمعات
ففي رسالة وجهتها العالمة ريتا ليفي مونتا لتشيني الإيطالية الحائزة على جائزة نوبل للطب والفيزيولوجيا (1986) تقول فيها للأجيال المقبلة:
إن الحل لنزاعتنا المشتركة الاهتمام بأنفسنا وهو اكتساب عادة الاهتمام بكل ما يحيط بنا منذ الطفولة فذلك ليس من شأنه فقط أن يبعدكم عن سلوك الأنانية، بل من شأنه أيضا أن يساعدكم مساعدة هائلة في كل مرحلة من مراحل حياتكم.
ورسالتنا نحن هي بمثابة توجيه لعدم تجزئة حياتنا إلى المستقبل الذي يعنينا فقط إنما أيضاً الاهتمام بمستقبلنا ومصيرنا المشترك مع بقية البشرية، فالحسابات الشخصية الضيقة قاتلة للطاقات وتكبيل الرؤى المتعددة التي تؤسس لقاعدة الحوار والاعتدال والمعرفة المتعددة التي تُضيئ لنا الطريق وهو معيار حقيقي لفلسفة الحوار المتعدد ومفتاح لخطوات ثقافية وتجارب إنسانية تدفعنا نحو فكر وشعور يترجم رحلة الطموح والعمل والجد لتحقيق التطور الفكري والتوازن في بناء فكر متعدد الثقافات والقبول بالحوار وطرح الرأي الاخر.
وهذا بلا شك يمثل مستوى من القبول الحضاري الذي تحتاجه كافة شرائح المجتمع للعناية والمعالجة المستمرة والمتجددة على مستوى عال لوجود التحديات المتعلقة بالتعايش المشترك، وتنمية وتعزيز دور الأسرة والتعليم والاعلام والمسجد والمجتمع للحفاظ على الاستقراء المجتمعي.
وبقي أن نشير إلى بعض الحقائق الموضوعية:
- الحوار ليس نهجاً انياً إنما هو خارطة طريق تنير للأجيال المقبلة قدسية الحوار والاحترام نحو فهم متبادل بين الأفراد والمجتمعات.
- التواصل المستمر بالحوار والمعارف المتعددة والاطلاع والتثقيف والتنوير المجتمعي وبناء أجيال واعية تفهم التحولات والحقوق والوجبات اتجاه الوطن والمجتمع.
- المساهمة من قبل أصحاب الفكر في تعزيز وحدة وسلامة المجتمع والوطن برفع مستوى الحوار في التعليم العام وتفعيل مبدأ المساواة والعدل والسلام ونبذ التطرف والعنف والصراع في مناحي الحياة وإشراك المجتمع في صناعة المستقبل وفتح قنوات التواصل في معالجة همومة وتحديات الحياة.
- الاستفادة من المنصات الرسمية والقيادات الفاعلة في الوطن لتجهيل المفسدين ودعاة التطرف وإماطة اللّثام عن كل من ينشر الكراهية والتوحش.
- لضمان ديمومة الحوار العابر للأديان والثقافات تفعيل المواقف القيادية والإشادة بها في المحافل العامة على مستوى الوطن
لتحقيق الغاية من الحوار كمنهاج معرفي... العمل على التنمية المستدامة لصالح المجتمع والوطن و تحمل المسؤولية الفردية والمجتمعية ومؤسسات المجتمع المدني والتفاعل في ترميم ما يصيب المجتمع من قصور لتلافي الظلام الذي كنا نعيش فيه.
* كاتب سعودي