... والأيام بيننا
1 يناير 1970
06:34 م
اما وقد ارتأى صاحب السمو الأمير بعد أزمة مكشوفة التوجهات معروفة الأبعاد، ان يعطي الاطراف كلها فرصة لاعادة الاعتبار الى التعاون، فلا بأس من التفكير في القادم من الايام دون الغرق في تفاصيل ما جرى.
هدأت الازمة ولم تحل الاسباب التي أدت اليها، والمطلوب من جميع الكويتيين التفكير بصوت عال في كيفية الخروج من ميدان الرماية الذي وضعهم خلاف المجلس والحكومة فيه، لأن ما جرى قد يتكرر في الحكومة المقبلة او في المجلس المقبل ما دامت الادوات والانظمة والمواد اللائحية خاضعة لتفسيرات واسعة ومطاطة تسمح بحصول ما حصل، فالمؤيدون للتصعيد استندوا على القوانين والحقوق، والمعارضون فعلوا الشيء نفسه فيما الكويت تدخل رويدا رويدا نفقا بلا مخارج.
المطلوب تطوير النظام السياسي. نقولها بلا رتوش ولا تجميل ولا مواربة ولا التفاف. المطلوب تحديث النظام وتجديد شبابه واحاطته بعناصر الحماية والمناعة رأفة بالكويت والكويتيين. المطلوب انهيار كل المتاريس التي يقف خلفها اصحاب «الشعارات المقدسة» لتعطيل كل ما يخالف مصالحهم واطلاق النار على من يعارض تحركاتهم. اصحاب «الشعارات المقدسة» موجودون في كل التيارات السياسية الاسلامية والليبيرالية والمحافظة والقبلية والطائفية، وموجودون في المجلس والحكومة والاسرة والاحزاب، وهم يمتهنون تحويل اي موضوع الى «قضية مصيرية» لانه يرتبط بمصالحهم او مشروعهم او اجندتهم.
نعم، يجب ان تنهار كل هذه المتاريس كمدخل الى تطوير النظام السياسي، لانها اخذت في الانتشار شيئا فشيئا مستفيدة من عجز الحكومة او من الصفقات معها، وحصل الجالسون خلفها على «انتصارات» لم تكن في الحسبان، وحشدوا معهم مجموعة وجدت في الولاء الطريق الاقصر لتحقيق مكاسب سريعة وتمرير معاملات... وصار المشهد العام مشهد متاريس سياسية بشعة، اتفاق رموزها يجعل الدولة عرضة للمحاصصة وتقاسم المصالح والشراكة على حساب القوانين، واختلافهم يدخل الدولة في نفق مظلم.
لا بد من انهيار المتاريس بل انهيار هذه المعادلة التي تطوقنا جميعا، ولا بد من انطلاق الجميع الى المساحة الوطنية الارحب، الى التلاقي على الثوابت الحقيقية التي قامت عليها الكويت وازدهرت. الى التفعيل الدستوري المطلوب لمواكبة التغيير والتطوير في مناخات سياسية هادئة تسمح بمزيد من الحريات.
الكويت اولا والكويت أخيرا، وعلينا كي نهدم المتاريس ان نجلس لنحدد اي مستقبل نريد. علينا ان نقيم بكل شفافية ومسؤولية نظامنا الانتخابي وهل نجح في تذويب النعرات الطائفية والتعصبات القبلية والعنصريات المناطقية ام انه كان عقبة امام الانصهار الوطني ولا بد من نظام انتخابي آخر قادر على خوض هذه المهمة؟ دائرة واحدة؟ دائرتان؟ ثلاث؟ خمس؟ عشر؟ نجلس ونتفق من دون اتهامات مسبقة وتنصيب طرف نفسه موزعا لشهادات الوطنية على اطراف أخرى. وطبعا في هذا السياق تفتح كل الدفاتر والملفات، من عدد الاصوات والتوزيع الجغرافي الى الفرعيات التي كفلت لوحدها اخذ الاستحقاق الديموقراطي الى طرق فرعية.
ومن النظام الانتخابي الى الحزبي. فالكويت تعيش عصر احزاب حقيقية وموجودة على الأرض لكنها تعتمد كلها من دون استثناء الاسلوب «الباطني» نظرا لأن اشهارها غير مسموح. والخطورة ان غالبية هذه الاحزاب الفاعلة والقادرة على الحشد هي من لون واحد أو فكر واحد ما يسهل على المدى الطويل انتشار المتاريس السياسية ويرجح انعكاس تنافسها على الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي. هل يجب ان تشهر الاحزاب وتخوض الانتخابات بموجب برامج ونرى غالبية مرجحة واقلية معترضة مصححة؟ هل يجب ان يفرض القانون تشكيل احزاب متنوعة مختلطة طائفيا وقبليا ومناطقيا وان يضمن مراقبة ذلك في مجالسها وفي بيانات تأسيسها؟ هل يجب ان تكون حصة الغالبية في الحكومة وفقا لتمثيلها الشعبي وبالتالي البرلماني؟ ايضا نجلس ونتفق من دون اتهامات مسبقة وتوزيع شهادات الوطنية على بعضنا البعض.
وبعد بحث النظام الانتخابي والاحزاب لا بد من بحث الآلية الكفيلة بتعاون السلطات. حكومة تحكم بموجب غالبية برلمانية أم بموجب النظام الحالي القائم على التصالح والتصادم من دون خطط وبرامج طويلة الأمد؟ حكومة تخوض معارك وأزمات لتمرير مشاريع وتدافع عن موقفها مهما كان الثمن ام حكومة تنسحب عند المواجهة وتسحب المشاريع عند الحساب؟ حكومة تخوض مهمة التنمية والتطوير بالتعاون مع المجلس ام حكومة تصرف جل وقتها للرد على ما تعتبره دسائس ومؤامرات؟ ايضا نجلس ونتفق رغم ان تطوير النظام الانتخابي واستحداث النظام الحزبي كفيلان اساسا بتغيير آلية عمل الحكومة.
وبعد ذلك، يقتضي التغيير ان تكون التنمية اولوية كل البرامج السياسية والهرم الذي يشارك الجميع في بنائه بحيث تتكامل في قاعدته ومتنه قطاعات التربية والتعليم والعمل والصحة والخدمات والاقتصاد والمشاريع الاستثمارية والمالية الضخمة والعمران واستراتيجيات الأمن والدفاع والحياة الاعلامية والثقافية والفنية... الخ.
نعرف تماما ان الهمس سيبدأ حول هذه الاقتراحات، وان الهمس قد يتحول الى مجاهرة واتهامات وتحذير من «خلفيات» الاقتراحات و«ما ورائيات» الدعوة الى التغيير و«الاهداف المخفية» لتطوير النظام السياسي. نعرف ان طبقة سياسية طويلة عريضة لم تعد ترى في ادبيات الحوار السياسي سوى اطلاق التهم لانها لغة المتاريس، ولم تعد ترى غير «المؤامرة» لانها جو المتاريس، ولم تعد تسمع سوى صوتها لانه صوت المتاريس. اما نحن الذين تعودنا على ذلك كله ووضعناه خلف ظهورنا لاننا نكره المتاريس ونعرف خطورة تحولها الى جدران عازلة ومناطق معزولة، فدليلنا النتائج التي وصلت اليها المعادلة السياسية الحالية التي لم يخرج من رحمها سوى الازمات ولن يخرج من رحمها سوى الازمات... والايام بيننا.
جاسم بودي