الحريري حقّق «ربحيْن» أَعاداه رقماً صعباً وسيكون أكثر «الخاسرين» فوزاً بالمَقاعد
نقْزة «حزب الله» من باسيل سببها موقفه اللا «أيديولوجي» من إسرائيل وتغييراتٌ في مؤسسة بالغة الحساسية
تَوقُّعات بأن يدْفع العهد باتجاه حكومة «موالاة» بعد الانتخابات وربْط نزاع بين «المال» ورئاسة البرلمان
«حزب الله» سيقبض على مفتاح البرلمان عبر «كتيبة نيابية» من حلفائه الخلّص تُشْبِه «القوة الضاربة»
لم يَبْقَ أمام القوى السياسية في بيروت سوى أسبوع لحسْم تحالفاتها الإنتخابية في ملاقاةِ إستحقاق السادس من مايو، وسط مفاوضاتٍ شاقة ومناوراتٍ كثيفة ومقايضاتٍ أقرب إلى الصفقات تحت الطاولة وفوقها في مطابخ تركيب اللوائح، الأمر الذي يصعب معه رسْم توقّعات حاسمة في شأن النتائج المحتملة لتلك الإنتخابات، أقلّه بسبب القانون الذي يُعتمد لأول مرة وما ينطوي عليه من «أفخاخ» جعلتْه في مرمى أوصاف بالغة السلبية كالقول إنه قانون «قابيل وهابيل» و«قانون الغدر» و«القانون - اللعنة»، و«قانون الفصل الطائفي والمذهبي» وقانون «الخناجر في الظَهر» وما شابَه.
ولكن رغم المحاكاة الغامضة لما قد ترسو عليه التحالفات بين غالبية القوى السياسية، المهمومةِ بـ «أحجامها» على أنقاضِ التموْضعات خلْف الشعارات الكبرى ـ باستثناء الثنائية الشيعية أي حركة «أمل» و«حزب الله» - فإن ثمة نتائج سياسية مبكّرة، ربما تفوق أهميتها نتائج فرْز صناديق السادس من مايو، تطلّ برأسها في الطريق إلى الانتخابات وما يرافقها من انفجارٍ لأزمات مكبوتة ومعارك ذات مغزى، وتشي بمتغيّرات لا يُستهان بمفاعيلها الطارئة أو المكتومة على المَشهد الجديد، بدءاً بالمعركة المزدوجة لانتخاب رئيسٍ للبرلمان وتشكيل حكومةٍ جديدة، وصولاً إلى مصير الالتزامات المتبادَلة التي كانت قائمة بين أكثر من طرف.
ولن يكون الرسْمُ التشبيهي للتوازنات الجديدة وما قد تفضي إليه من تموْضعات، بمعزلٍ عن الصراع الإقليمي حول لبنان وعليه، وهو المحكوم بلعبة «الأوعية المتّصلة»، لا سيما في سورية المجاورة التي جاءت إليها روسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة وعلى تخومها تقف إسرائيل، ويتشارك لبنان في «وليمتها المسمومة» عبر «حزب الله» الذي انتقل بترسانته ومقاتليه الى هناك العام 2013 ويستمرّ إلى جانب الميليشيات الإيرانية في عملية شقّ طريق طهران - بيروت عبر بغداد - دمشق.
والسؤال المحوري في بيروت اليوم هو: ماذا سيحلّ بالكتل السياسية الثلاث الوازنة في البلاد («تيار المستقبل» بزعامة رئيس الحكومة سعد الحريري، «التيار الوطني الحر» برئاسة الوزير جبران باسيل، و«حزب الله»)، والتي سَبَقَ أن شكّلت الرافعة للتسوية السياسية لإنهاء فراغِ نحو 30 شهراً في الرئاسة الأولى عبر انتخاب حليف «حزب الله» العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وعودة الحريري رئيساً للحكومة بعد طول إقصاءٍ، وتشكيل حكومةٍ ائتلافية - انتقالية في إنتظار إجراء انتخابات نيابية معلّقة منذ العام 2013.
عندما رَكِبَ الحريري «المجازفةَ الكبرى» بانتخاب عون رئيساً، وهو العائد إلى الحكومة بلا ثورة ولا ثروة، عانى انحساراً لم يُنْكِرْه في شعبيته وبدا كمَن يقدّم التنازلات لحفْظِ تسويةٍ يعمل على قضْمها «حزب الله» على وهج اختلال ميزان القوى الإقليمي، ما ألّب على الحريري الأقربين والأبعدين إلى الحدّ الذي اضطُره في نوفمبر الماضي إلى تقديم استقالةٍ لم يكن يريدها خلال زيارةٍ، قيل الكثير عن ملابساتها، إلى الرياض، قبل أن يعود إلى بيروت وعن الاستقالة.
المفارقةُ الأهمّ والأكثر إثارة هي أن الحريري في آخر زيارتيْن للسعودية، (في نوفمبر وبعدها أوائل مارس) راكَمَ «ربحيْن» ساهما في معاودة تعويم شعبّيته على نحوٍ غير متوقَّع ما جعله ومن جديد رقماً صعباً في الانتخابات النيابية... الربح الأول حين حظي بفائضٍ من التعاطف غير المسبوق في الداخل بعدما جرى تصويرُه على أنه «محتجَز»، وباحتضانٍ دولي لافتٍ كـ«رمزٍ» لاستقرار لبنان، والربح الثاني يوم عاد من الرياض في زيارته الأخيرة بما يشبه مباركةً سعودية لخياراته في إطار مقاربةٍ جديدة للمملكة تقوم على معاودة دعم لبنان.
وبهذا المعنى فإن الوقائع المتصلة بواقع الحريري ومكانته انقلبتْ رأساً على عقب.
... في جلسةٍ مع أحد السفراء المعنيين غداة عودة الحريري من الرياض إثر استقالته الملتبسة، كانت الصورة قاتمةً إلى حد اليأس. كل الإرث التراكُمي، السياسي والإنمائي والإنساني والاقتصادي للعلاقة اللبنانية مع دول الخليج بدا وكأنه إنهارَ فجأة. ها هي بيئة الحريري، صغارها وكبارها ترتمي في أحضان «حزب الله»، الذي نجح في استمالتها عبر بروباغندا إعلامية - سياسية اتكأتْ على خطأ وكادتْ أن تبرئ ذمة الحزب من خطاياه قديمها وجديدها.
لم يكن ممكناً رفْع الرايات البيض أمام هذا الواقع البالغ السلبية، فإدارة الظهْر المتبادَلة بين لبنان ودول الخليج تعني تسْليماً بما تريده إيران، ومِن غير الجائز إضعاف الحريري وتسليمه للآخرين أو صنْع بدائل عنه تزيد التشتّت، وتالياً لا بدّ من قلْب الصورة بعنايةٍ ومهارة. نجحتْ الديبلوماسيات الرديفة وبعنادٍ في شقّ قنواتِ التواصل وترميم الجسور والعودة بالأمور الى أفضل مما كانت عليه.
ويروي بعض العارفين أنه في الزيارة الأخيرة للحريري للرياض حظي بفائضٍ من الحفاوة والودّ وحُسن الإستقبال كان كفيلاً بـ «غسْل القلوب». ولم يكن عادياً العشاء غير الرسمي الذي جَمَع فيه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان فريق عمله والأصدقاء المشترَكين مع الحريري على شرف رئيس الحكومة الذي عاد إلى بيروت مُطْمَئناً إلى دعمٍ سعودي مزدوج، لإدارته وخياراته، وللمشاركة في مؤتمرات دعْم لبنان في روما وباريس وبروكسيل.
وسَمِعَ الحريري في الرياض، حسب العارفين، رغبةً سعودية في قيام تّحالُف بين «المستقبل» وأطراف تعتبرها المملكة حليفةً لها كـ «القوات اللبنانية»، فلم يمانع رئيس الحكومة الذي شرح لمضيفيه طبيعة قانون الانتخاب الجديد في لبنان الذي يُمْلي على كل طرفٍ تقديم مصلحته الانتخابية وربما خوْض الانتخابات من دون تحالفاتٍ، أو توسيع قاعدة التحالف، ودائماً للفوز بأكبر عدد ممكن من المقاعد.
وتبعاً لـ «الربحيْن» اللذين حقّقهما الحريري، فإنه أصبح أكثر قدرة على الحدّ من خسائر لا بدّ منها في انتخابات السادس من مايو، وسط تقديراتٍ بأن كتلته التي كانت مؤلفة من 32 نائباً مرشّحة لأن تصبح ما بين 22 و24 نائباً، وتالياً سيكون أكثر الخاسرين ربْحاً عبر كتلةٍ مرموقة تتيح له العودة وعلى نحو أكثر تَماسُكاً وصلابة إلى رئاسة حكومة ما بعد الانتخابات، والتي لن يكون سهلاً تشكيلها نتيجة تمادي الصراع بين «التيار الوطني الحر» وحركة «أمل» بزعامة رئيس البرلمان نبيه بري.
وثمة شكوكٌ كثيرة تحوط العلاقة الشائكة بين «الوطني الحر» و«أمل» وما يعتريها من أشواك إستفحلتْ في الطريق الى الانتخابات. فالرئيس بري، لم يكن شريكاً في التسوية التي أوصلتْ عون رئيساً. وقادَ معارضةَ «الأوراق البيض» ضدّه، وتَلاعَبَ بأعصابه في جلسةِ «الهرْج والمرْج» لإنتخابه، وكادتْ أخيراً أن تنفجر علاقة «الودّ الملغوم» بين الطرفين في مواجهةٍ حصلتْ حين سُرِّب شريط يصف فيه الوزير باسيل (صهر الرئيس عون) الرئيس بري بـ «البلطجي» ويتوعّد بـ «تكسير رأسه»، ما هدّد بفتنةٍ شيعية - مسيحية في الشارع، أَغْضَبَتْ «حزب الله» وأَحْرَجَتْه قبل أن تنجح الوساطات في نزْع فتيلٍ باهظ الأثمان.
وثمة مَن يعتقد أن الاشتباك الدائم بين الحليفيْن بالواسطة، «التيار الحر» وحركة «أمل»، يتجاوز مستلزمات التحمية التي تُمْليها عملياتُ التجييش الانتخابية، رغم اضطرارهما إلى الوجود على لوائح واحدة في بعض الدوائر برعاية «حزب الله» و«حمايته». فالمشكلة بينهما مرشّحة لفصولٍ أكثر إيلاماً بعد الانتخابات، وسط سيناريواتٍ تتحدّث عن أن حزب العهد سيرفض بقوةٍ بقاء وزارة المال في عهدة حركة «أمل»، التي لن تتنازل بدورها عن حقيبةٍ ترقى إلى ما هو استراتيجي في نظرها كونها تَضْمَن وجود «التوقيع الشيعي» إلى جانب الماروني والسنّي على كل شاردة وواردة في أوراق الجمهورية ودفاترها.
ويذهب البعض في بيروت إلى حد القول إن تَزامُن معركتيْ رئاسة البرلمان وتشكيل الحكومة بعد الانتخابات سيشعل أزمةً يصعب التكهّن بمسارها خصوصاً في ضوء توجهاتٍ قد تكون مفاجئة على خطيْن:
* إمكان لجوء العهد إلى الدفْع في اتجاه قيام حكومة موالاةٍ وخارج نطاق حكومات الوحدة الوطنية التي تَعوّدها لبنان. فالعهد الذي غالباً ما أوحى بأن بدايته الفعلية تكون بعد الانتخابات، يريد حكومةً تحكم لا تدير الأزمات، على غرار ما واجَهَهُ في ملف الكهرباء على سبيل المثال أو من خلال تَعاطي بعض القوى على طريقة الشريك المُضارِب له من داخل الحكومة.
* إمكان الربط بين أزمتيْ تشكيل الحكومة وانتخاب رئيسٍ جديدٍ للبرلمان، أي تجديد ولاية الرئيس نبيه بري المتوالية منذ ربع قرن، الأمر الذي دَفَع بعض مَن هم في قلب اللعبة السياسية إلى تَوقُّعِ فراغٍ ما في رئاسة البرلمان، سبق أن عانتْه الرئاسة الأولى ولم تكن بمنأى عنه رئاسة الحكومة التي أصبح عادياً تَعايُشها لأشهر مع التكليف من دون التأليف، رغم عدم واقعية هذا السيناريو.
وهذه التوقُّعات في مجملها تستند إلى اقتناعٍ بأن من الصعب ترميم العلاقة بين حزب عون وحركة بري بعدما «انكسرتْ الجرّة» بينهما، رغم دور «الإطفائي» الذي يلعبه «حزب الله» للحدّ من تفاعلاتِ معارك «الكرّ والفرّ» على جبهة «حليفيْه الاستراتيجييْن»، رئيس البرلمان الذي يشكّل خطاً أحمر لحفْظ وحدة البيت الشيعي التي لا يمكن التفريط بها في أيّ حال، وحزب رئيس الجمهورية الذي سَبَقَ أن كَسَرَ عزلةَ الحزب ِفي الداخل وضَمَنَ له ممارسةَ «الفيتو» في المؤسسات وأَراحه في عملية الإمساك بالإمْرة الاستراتيجية.
لكن ما يصحّ مع العماد عون الذي صار رئيساً للجمهورية، لا يصحّ بالضرورة مع صهره رئيس «التيار الحر» الوزير باسيل رغم الوعد الذي كان سمعه من الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله في رمضان الماضي بوقوف «حزب الله» إلى جانبه لإكمال المسيرة التي بدأها «الجنرال» وصولاً الى الرئاسة بـ «التكافل والتضامن» بين الطرفيْن. فأداء باسيل ومواقفه ومعاركه تثير، حسب أوساط واسعة الإطلاع، نقْزةً لدى الحزب الذي يحرص على حماية «تفاهم مار مخايل» مع «التيار الحر» وديمومته لأسباب لا يمكن التقليل من أهميتها على الإطلاق.
فرغم أن باسيل يحرص، بلا ملل ولا كلل، على تأييد «حزب الله» كمقاومةٍ والدفاع عن التفاهم معه ومُداراته، إلا أن الحزب بدا أخيراً غير مُطْمَئنّ إلى مسألتيْن هما: الموقف من إسرائيل و«حقّها في الوجود وبأن يشعر شعبها بالأمان»، والتغييرات التي تجري في إحدى المؤسسات الحسّاسة للإمساك بها، وهي مؤسسة يوليها «حزب الله» أهمية استثنائية، الأمر الذي تزايدتْ معه شكوكٌ مكتومة وعميقة حيال العلاقة على المدى البعيد بين الطرفيْن اللذين تربطهما «مصلحةٌ مشتركة» في البقاء معاً.
وهذه التمايزات التي بدأتْ تطفو على السطح بعد انتخاب العماد عون رئيساً بقوةِ سواعد «حزب الله»، لم تكن مُفاجئة حتى للذين يجزمون بأن العلاقة بين الرئيس والحزب عصية على الافتراق. فالمسألة في نهاية المطاف ترتبط بما يشبه «زواج المتعة»، لا «الزواج الماروني»، بين مشروعيْن... مشروع سلطة غالباً ما راوَدَ العماد عون الى أن وصل، وتالياً فهو سيحاول وبما تَيسّر أن يكون رئيساً كامل الأوصاف، ومشروع إيديولوجي يقوده الحزب في لبنان كواحدٍ من ساحات الأمة، وهو ربما بدّل أساليبه من دون أن يبدّل وجهته، فالمسارُ واحدٌ منذ رسالة النشأة في العام 1985 وحتى الحديث الأخير لنصر الله الذي سُرّب على أحد المواقع الإخبارية الإيرانية.
وفي اللحظةِ التي قد تفضي إلى تَحوُّل «التمايز» بين «حزب الله» و«التيار الحر» إلى ما هو أكثر من ذلك، قرّر الحزب الذي «هنْدسَ» قانون الانتخاب الحالي، الاستعانةَ بـ «السلاح الأبيض» عبر تشكيلِ ما يشبه «كتيبة نيابية» من حلفائه الخلص كـ «قوةٍ ضاربة» تُمْسِك بـ «الثلث المعطّل» في برلمان الـ 2018 من دون الحاجة للاستعانة بـ «صديق» أو بـ «القمصان السود»، أي لا بـ «التيار الحر» ولا بالنائب وليد جنبلاط، فـ «مفتاح» مجلس النواب سيكون... في يده.