يصعب على المراقبين في بيروت، مع تدشين السنة الجديدة، رسم الخط البياني للمسار السياسي في لبنان، الذي يشهد إنتخابات نيابية مفصلية بعد أربعة أشهر من الآن، بمعزل عن تحولات لا يستهان بها تجري في المنطقة، فغالباً ما كان لـ«الخارج» صوت قوي في الاستحقاقات اللبنانية، خصوصاً تلك التي تتصل بالتوازنات داخل السلطة وبالموقع الإقليمي للبنان، كالانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات وما شابه.
فهذه العلاقة التفاعلية القائمة على «الأوعية المتصلة» بين الداخل والخارج في لبنان، تجعل المدة الفاصلة عن الانتخابات في السادس من مايو المقبل، ملعباً لوقائع متحركة تُحاكي المخاض المتعدد الاتجاه في الإقليم وحروبه «ومفاجآته». فبعد السعودية الجديدة التي برزت ملامحها مع الحركة الإصلاحية التي يقودها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ها هي إيران الجديدة على محك حركة احتجاجية، يصعب التهكن بمصيرها رغم تجرؤها واتساعها.
فمن الرياض وحساباتها اللبنانية الصعبة إلى طهران وما تخبئه مفاجآتها لـ«متراسها الأمامي» على المتوسط، ومن دمشق التي تكاد أن تودع الحرب من دون أن تنصاع للسلام إلى صنعاء التي تمضي في مغامرة ترويض الجغرافيا، ومن بغداد الموعودة بالاحتكام إلى «الصناديق» للتحكم بخياراتها إلى عموم المنطقة المشغولة بمنازلات لاعبيها وأدوار الآخرين... من هذا إلى ذاك خلاصات يصيب وهجها بيروت ويترك بصماته على وجهتها السياسية.
فثمة انطباع بأن زلازل المنطقة على مدى الأعوم السبعة الماضية أدت إلى إختلال في موازين القوى لمصلحة إيران في الصراع الكبير في الإقليم، ومكنت تالياً «حزب الله» من فرض إرادته في لبنان عبر المجيء بحليفه العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وإنتزاع قانون إنتخاب يضمن له الفوز بغالبية برلمانية تتيح له إملاء خياراته على الآخرين، وهو الاستنتاج الذي تقلل أطراف وازنة من شأنه لأنه يصعب على التركيبة اللبنانية «هضم» غلبة من هذا النوع.
ومن المنتظر أن تطلق القوى السياسية ماكيناتها الانتخابية في وقت قريب، مع العد التنازلي لاستحقاق السادس من مايو، وسط تفاهمات بـ«الأحرف الأولى» حيال تحالفات غير حاسمة ومتماوجة على وقع حراك داخلي وتأثيرات خارجية، خصوصاً أن البلاد مرشحة لتجاذبات حول عناوين سياسية واقتصادية تعكس في عمقها صراعاً على إدارة الحكم والتوازنات فيه في ظل تسوية دخلت في اختبار عامها الثاني.
وكان لافتاً في هذا السياق الانهيار السريع لأجواء المهادنة السياسية التي أملاها «التوافق» إبان أزمة استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري من الرياض، بسبب أزمة مفاجئة بين رئيسي الجمهورية ميشال عون والبرلمان نبيه بري عرفت بـ«مرسوم الأقدمية»، وبدا أنها تشكل رأس جبل صراع على إدارة السلطة وقطاعاتها الحيوية، كالخلاف الخفي حول «الوصاية» على الملف النفطي، لا سيما «الصندوق السيادي».
فالمرسوم الذي يمنح أقدمية سنة لضباط دورة في الجيش اللبناني تعود لـ1994، ومحسوبين على الرئيس عون أثار حفيظة الرئيس بري الذي رأى في إمراره بتوقيعي رئيس الجمهورية (الماروني) ورئيس الحكومة (السني) وتجاهل توقيع وزير المال (الشيعي)، تجاوزاً للميثاقية، وهو الأمر الذي لا يقرّ به عون المصرّ على عدم وجود مترتبات مالية للمرسوم تستوجب توقيع وزير المال.
ورغم أن بري كان حصر المشكلة بـ«التوقيع الشيعي» على مرسوم يضمن شخصياً إمراره، فإن عون أوحى بأن المساجلات الدائرة حول «المرسوم المأزوم» هدفها شيء آخر، ما عكس صراعاً لم يعد خفياً يتناول الأحجام والأدوار والصلاحيات، وسط إتهامات ضمنية بأن رئيس الجمهورية يحاول بالممارسة استرداد صلاحيات انتزعها منه اتفاق الطائف أو الإطاحة بـ«أعراف» جرى تكريسها بقوة النفوذ السوري إبان حقبة الوصاية.
والأكثر إثارة في هذا السياق أن أزمة طارئة من النوع الذي أحدثها «مرسوم الأقدمية» تكاد أن تخلط الأوراق، خصوصاً في ضوء التصلب المتبادل بين عون وبري، الذي من شأنه تصعيب مهمة الوسطاء في البحث عن مخارج تضمن عدم إنكسار إحدى الرئاستين، وهي تماماً المهمة الصعبة التي يعتزم الرئيس الحريري الاضطلاع بها تفادياً للانعكاسات السلبية على حكومته.
فعشية أول اختبار لذيول تلك الأزمة، والمتمثل بإنعقاد جلسة مجلس الوزراء غداً الخميس تسلط الأضواء على جبهة «المحرجين» من الاشتباك الدائر بين الرئاستين الأولى والثانية، والتي تضم «حزب الله» الذي يقف ضمناً مع شريكه في الثنائية الشيعية (بري) من دون إتخاذ أي موقف من شأنه إغضاب عون، والرئيس الحريري الذي وجد نفسه بين نيران صديقة، فهو وقّع مع عون ويتجنب الإيقاع بينه وبين بري.
وثمة من يعتقد أن تزامن انفجار الصراع المكتوم بين عون وبري وما ينطوي عليه من قطب مخفية، مع بدء العد التنازلي للانتخابات النيابية سيؤثر في طبيعة التحالفات الانتخابية التي تتلاعب بها معايير مختلفة، محلية وإقليمية، والثابت فيها حتى الآن تحالف عون - «حزب الله» وتحالف عون - الحريري.
وتولي الأطراف الإقليمية، لا سيما المملكة العربية السعودية أهمية «ما فوق عادية» للانتخابات النيابية المقبلة، وكذلك المجتمع الدولي لمعرفة حجم قبضة «حزب الله» على البرلمان العتيد، لأن من شأن نتائجها تحديد وجهة التعاطي مع لبنان، الذي يسجل اليوم خطوة في اتجاه معاودة تطبيع العلاقة مع الرياض عبر تسلم الرئيس عون أوراق اعتماد سفير المملكة الجديد في بيروت وليد اليعقوب بعدما تسلمها وزير الخارجية جبران باسيل أمس.
ورغم أن طهران حاضرة بقوة في المعادلة اللبنانية من خلال المكانة المحورية لـ«حزب الله»، فإنها على موعد مع زيارة يقوم بها الرئيس بري في 13 الجاري، وهي زيارة تكسب أهمية مضاعفة كونها تأتي في حمأة الاحتجاجات التي تشهدها إيران من جهة، ودخول لبنان في مدار الانتخابات النيابية من جهة أخرى.