احتارت الأوساط الأميركية في المبدأ الجديد الذي قدمه الرئيس دونالد ترامب في السياسة الخارجية، وأطلق عليه تسمية «الواقعية المبدئية»، وهي تسمية تحمل في ما تحمله تناقضاً واضحاً.
وقال ترامب، في الخطاب الذي أعلن فيه عن «استراتيجية الأمن القومي» الأميركي الجديدة، مساء أول من أمس، «إن استراتيجيتنا الجديدة مبنية على واقعية مبدئية، مستهدية بمصالحنا القومية الحيوية، ومتجذرة بمبادئنا الأزلية الأبدية».
ولطالما انقسمت واشنطن، تاريخياً، الى معسكرين في السياسة الخارجية، الأول يدعو إلى ضرورة التزام الولايات المتحدة المبادئ المؤسسة التي تقوم عليها، وفي طليعتها الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان، وأن تعمل على حماية الحكومات المتمسكة بهذه المبادئ، والمساهمة في نشرها حول العالم.
أما المعسكر الثاني فدعا الإدارات المتعاقبة الى تجاهل مبادئ الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان، لأن الالتزام بها يعوق مصالح أميركا حول العالم، ويؤخرها في سباقها مع القوى العالمية الاخرى، مثل الصين وروسيا.
وفي العام 2011، برزت الى الواجهة مجموعة ممن وجدت ضالتها في حماية الثورة الليبية من البطش الذي كان متوقعاً أن يلحقه بها الزعيم الراحل معمر القذافي، فأطلقت وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون مقولة ان التدخل العسكري الأميركي في ليبيا كان يستوفي الشرطين ويجمعهما. وأعلنت واشنطن تدخلها في ليبيا آنذاك تم وفق مبدأ «حماية المدنيين» الانساني، وربطت تدخلها المبدئي المذكور بالاشارة الى انه يصادف أن فيه مصلحة اميركية في الوقت عينه.
وباستثناء المبرر الذي استخدمته إدارة الرئيس السابق باراك أوباما لتدخلها العسكري المحدود في ليبيا، تغرق واشنطن في انقسام دائم بين أهل الواقعية وأهل المبادئ، الى أن جاء ترامب وقرر ربط المتناقضين في مبدأ واحد أطلق عليه تسمية «الواقعية المبدئية».
والتناقض في «عقيدة ترامب» في السياسة الخارجية، إن جاز التعبير، يشبه خطابه المتناقض في معظم نواحيه، إذ ما الذي يربط بين ارتفاع أسعار الاسهم المالية الأميركية أو تقليص واشنطن تشريعاتها في وجه الشركات، بالعلاقات وموازين القوى الدولية؟
وعلمت «الراي» من مصادر مقربة من البيت الأبيض أن خطاب ترامب كان من بنات أفكار مستشاره السابق للشؤون الاستراتيجية ستيفن بانون. وعلى الرغم من أن الاخير استقال من البيت الابيض قبل أشهر، الا أن المطلعين يقولون ان الاستقالة كانت شكلية، وأن ترامب وبانون على اتصال شبه يومي.
وبدت بصمات بانون واضحة في الاستراتيجية الاميركية التي أعلنها ترامب، إذ تضمنت المطالبة بإغلاق الحدود الأميركية امام المهاجرين الى الولايات المتحدة، وجاء فيه ان قوة اميركا مبنية على «تقوية العائلات… وبناء مجتمعنا… والاحتفال بالعظمة الاميركية كمثال ساطع للعالم».
والأفكار الثلاثة هذه من الخطاب الجمهوري اليميني، الموجه الى العائلات والتماسك المجتمعي والتقاليد، إذ ان غالبية مؤيدي الحزب هم من الريفيين، فيما يؤيد سكان المدن الحزب الديموقراطي. وفيما يعتقد الجمهوريون أن التاريخ الأميركي يخلو من أي شوائب ويجب العودة الى الماضي، تعتقد غالبية الديموقراطيين ان أميركا قامت على دموع ودماء شعوب كثيرة، وان أميركا كقوة عظمى عليها أن تقتصد في استخدام قوتها، وأن تعتذر ممن يمكن أن تكون آذتهم في الماضي.
هكذا، خلا خطاب ترامب من «استراتيجية أمن قومي» فعلياً، وجاء متمحورا حول «نقاط كلام» موجهة للداخل ولمجهود إعادة انتخابه لولاية ثانية في العام 2020.
حتى في حديثه عن روسيا، التي وصفها بمنافسة لأميركا مثل الصين، أصر ترامب على الحديث عن التعاون الاستخباراتي بين الدولتين، وهو تعاون أدى أخيراً إلى إحباط هجوم إرهابي كان معداً للتنفيذ في مدينة سان بطرسبورغ، على الرغم من العقوبات الأميركية القائمة على روسيا، والتي حاول ترامب مراراً رفعها، ليصطدم بكونغرس معارض، مع أن الغالبية التي تسيطر عليه تنتمي لحزب ترامب الجمهوري نفسه.
والاشارة الى تعاون ادارة ترامب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين له حسابات داخلية كذلك، إذ ترى غالبية المسيحيين البيض المحافظين في بوتين حليفاً طبيعياً لهم، لا على المسرح الدولي، بل داخل الولايات المتحدة لمواجهة ما يعتقده هؤلاء تهديد غير المسيحيين وغير البيض لـ «الثقافة البيضاء» التي يعتقدون ان الولايات المتحدة تقوم عليها، وان ترامب وبوتين يحميانها معا اليوم حول العالم.