سوائل أجسامنا «أنهار تسري فينا»... سلسلة إبحارات بين أمواجها (4 من 4)
دموعك وعرقك وبَولُك: تنضح مُلطِّفات... وتطرح نفايات
إعداد: عبدالعليم الحجار
1 يناير 1970
05:27 ص
سوائل أجسامنا هي بمثابة «أنهار» فعلية تسري في سائر أرجاء البدن لتمنحه نبض الحياة والحيوية والصحة والعافية، بل وينطبق عليها كل ما ينطبق على الأنهار الجغرافية التي تسري في أرجاء الأرض.
لكن ما يسري في «أنهار» أجسامنا ليست مياها خالصة، بل هي مياه متنوعة وبها أخلاط، إذ يحمل كل نوع منها عوالق بيولوجية ومكونات تمنحه خصائصه الحيوية الضرورية لقيامه بوظائفه الكثيرة والمتنوعة في سياق منظومة البدن ككل، وهي الوظائف التي يجمع بينها قاسم مشترك واحد ألا وهو: المحافظة على استمرارية إبحار سفينة حياة البدن.
من منطلق تلك الأهمية الفائقة لسوائل أجسامنا، نسلط ضوءا تعريفيا في هذه السلسلة المؤلفة من حلقات متتالية أسبوعيا على سوائل الجسم الحيوية الرئيسية.
وفي هذه الحلقة الرابعة والأخيرة من هذه السلسة، نختتم رحلات إبحاراتنا في أنهار سوائل الجسم البشري بتسليط الضوء على الدموع والبول والعرق، والتي يمكننا أن نصفها بأنها سوائل شبكة «صرف صحي» خاصة بالجسم، إذ إنها تجمع بعض نفايات الجسم وتحملها عبر مسالك خاصة لتطرحها خارج البدن وتخلّصه منها. وفضلا عن ذلك، فإن تلك السوائل الثلاث تعمل كـ«مُلطفات» جسدية ونفسية، من بينها على سبيل المثال أن الدموع ترطب العينين وتحميهما من الجفاف والالتهابات، وتريح النفس والذهن، كما أن العرق يقوم بتلطيف وتنظيم درجة حرارة الجسم.
فإلى رحلتنا...
أولا: الدموع
دموعك هي أحد السوائل التنظيفية الترطيبية، وتفرزها غدد خاصة لأسباب متنوعة، وهي نتاج آلية حيوية مهمة تسهم في أداء وظائف فسيولوجية ونفسية عدة من بينها ترطيب العينين وتلطيف درجة حرارتهما وطرد العوالق والشوائب الغريبة منهما. كما قد تتسبب عملية التثاؤب لدى بعض الأشخاص إلى إفراز دموع.
وفضلا عن ذلك، تؤدي الدموع وظيفة وجدانية إذ إنها تترجم ما قد يؤثر على نفس وذهن الشخص من انفعالات وعواطف قوية أو صادمة بشدة: كالحزن، والألم، والفرحة، والحنين، والندم وغير ذلك.
وعلى الرغم من وجود آلية غُددية لإفراز الدموع لدى جميع المخلوقات التي تنتمي إلى فصيلة الثدييات، فإن الإنسان هو الكائن الثديي الوحيد الذي يتميز بخاصية ذرف الدموع بسبب مؤثرات عاطفية أو وجدانية كالتي ذكرناها آنفا. ويعتقد أهل الاختصاص أن المخ يصدر أمرا إلى الغدد الدمعية كي تبدأ الإفراز في مثل تلك الحالات تحديدا كي تساعده علي أن يتحمل هذا المؤثر أو ذاك.
على مدار الساعة
لكن ما قد لا يعلمه كثيرون هو أن عملية إفراز الدموع تستمر على مدار الساعة تقريبا مثلما هو حال إفراز اللعاب في الفم. فالعين تفرز باستمرار جرعة محدودة من الدموع لطرد الشوائب ولإبقاء القرنية رطبة ونظيفة. لذا فإنه في حال نقص كثافة طبقة السوائل الدمعية التي تكسو قرنية العين، فإن الشخص يشعر بأعراض جفاف العينين ولا يستطيع أن يستخدم العدسات اللاصقة لأن تلك العدسات تمنع الأوكسجين من الوصول إلى قرنية العين. ولمعالجة تلك المشكلة يصف الأطباء لمستخدمي العدسات اللاصقة قطرات مرطبة معينة تعمل كبديل للدموع.
لماذا يسيل الأنف عندما تدمع العينان؟
تنبثق الدموع بكميات محدودة طوال الوقت من غدد دمعية خاصة توجد في الجانبين العلوي والخارجي لكل عين. وعندما تفرز هذه الغدد كميات فائضة من الدموع، فإنه يتم تسريب وتصريف ذلك الفائض تلقائيا عن طريق البلعوم الأنفي ومنه إلى المريء فالمعدة.
أما في الحالات الأخرى التي تكون افرازات تلك الغدد فيها كبيرة (كالبكاء أو تقطيع البصل أو التعرض لمهيجات دخانية مستثيرة للدموع)، فإن الدموع تفيض منهالة من العينين وتسيل على الخدين إذا استمر ذلك الفيضان.
تعددت الأنواع... والدمع واحد!
والدموع التي تفرزها عيناك متعددة الأنواع. فهناك الدموع ذات التركيب القاعدي، والتي تفرزها غددك الدمعية بجرعات صغيرة طوال الوقت لتقوم بوظائف ترطيب وتنظيف العينين وتغذيتهما بالأكسجين كما أشرنا آنفا. وهناك نوع ثان يعرف باسم الدموع اللاإرادية، ووظيفتها هي حماية العين عند تعرضها لأي مستثيرات أو مهيجات أو أجسام غريبة، مثل المواد التي تنبعث من البصل عند تقطيعه، والعوالق الترابية التي تكون في الجو، وغير ذلك. وهذان النوعان يختلفان عن بعضهما في تركيبهما الكيميائي.
أما النوع الثالث فهو تلك الدموع التي تذرفها عيناك في أي حالة من حالات التأثر العاطفي أو الوجداني. وكشفت نتائج دراسات عن أن هذه الدموع تتميز عن النوعين السابق ذكرهما بأنها تحوي نسبا أعلى من جزيئات بروتينية ومركبات وعناصر معدنية أخرى، لكن تلك النسبة تتفاوت بشكل كبير من شخص إلى آخر.
ويتشابه التركيب الكيميائي لمكونات الدموع مع مكونات اللعاب، إذ إن كليهما يتكونان من الماء كمكون رئيسي إلى جانب عدد غير قليل من المكونات الكيميائية بنسب متفاوتة، بما في ذلك البروتين والأملاح والهورمونات، وغير ذلك.
ولأن جزءا من الدموع يتسرب إلى التجاوبف الداخلية للأنف عند البكاء الشديد أو لفترة طويلة نسبيا، فإن تراكم تلك الدموع يتم تصريفه تلقائيا على هيئة سيلان من الأنف، وهو السيلان الذي يكون مختلطا بمخاط عادة.
ثانيا: البول
البَول هو ذلك السائل الجسمي الذي تستخلصه كُليتاك من دمك ثم تقطرانه من خلال حالبين ليصل إلى مثانتك البولية، ثم منها إلى مجرى تصريف يؤدي إلى خارج جسمك، وهو المجرى الذي يعرف تشريحيا بإسم «الإحليل». وبهذا يتخلص جسمك من خلال عملية التبول من الأملاح والمعادن والمركبات الأخرى الزائدة أو غير المرغوبة.
وبطبيعة الحال، فإن عملية التبول هي من أهم الوظائف الجسدية على الإطلاق، إذ إنها ضرورية لتخليصك من نفايات قد تتسبب في إيذاء الشخص أو حتى وفاته إذا بقيت محتجزة لفترة معينة في داخل جسمه. وإلى جانب تلك الوظيفة المنقذة للحياة، فإن لتصريف سائل البول وظائف أخرى من أهمها المحافظة على توازن نسب سوائل الجسم المختلفة بما يضمن استمرارية قيامها بوظائفها المتنوعة.
البول... والتشخيص
ونظرا إلى كون البول يحوي مكونات كيميائية كثيرة محمولة من سائر أعضاء الجسم، فإنه يستخدم في كثير من التحاليل المختبرية كجزء من مجموعة تحاليل تساعد على تشخيص بعض الأمراض، إذ إن ارتفاع أو انخفاض بعض المكونات الموجودة في البول عن حدود قصوى ودنيا معينة هو أمر يساعد الطبيب المعالج على استكشاف مكمن الخلل في جسم المريض ثم يقوم بوصف العلاج على هذا الأساس إلى جانب إجراء اختبارات تشخيصية أخرى إذا اقتضى الأمر ذلك.
مكوناته
يتألف البول من ماء بنسبة 95 في المئة تقريبا، أما النسبة المتبقية فتكون مواد عضوية وغير عضوية. ومن المفترض في الأحوال الطبيعية ألا يحوي البول أي بروتينات أو سكر غلوكوز.
وفي الأحوال الطبيعية، يكون للبول تركيب معين يتألف من مواد من المفترض ألا تزيد نسبة أي واحدة منها عن حد معين. وفي هذه الحالة يعتبر البول معبرا عن أن جسم الشخص سليم صحيا ولا يعاني من أمراض أو التهابات متداخلة مع مجرى الدم تحديدا. (طالع الكادر تحت عنوان «البول السليم... من الجسم السليم»).
ومن المفترض أن تترواح درجة حموضة البول الطبيعي بين 6.2 إلى 8.6 في المئة، كما أن إجمالي حجم البول الذي يجب أن يدره الشخص الطبيعي على مدار الساعة هو بين 800 و 2750 سنتيمتر مكعب. فإذا وصل إجمالي كمية البول إلى 3000 سنتيمتر مكعب على مدار الساعة، اعتبر هذا إفراط يحتاج إلى علاج بعد تحديد أسبابه.
ثالثا: العرق
العرق الذي ينضح من خلال مسام جلدك هو نتاج آلية منظومة التعرُّق التي تعمل بشكل شبه مستمر من أجل تكييف وتضبيط درجة حرارة جسمك مع درجة حرارة الجو المحيط به، إلى جانب تخليص الجسم من مخلفات ونفايات تخرج محمولة في قطرات العرق وهي تتألف بشكل أساسي من أملاح ومركبات كيميائية غير مرغوبة أخرى.
وفي الأحوال الطبيعية يشكل الماء ما نسبته 99 في المئة من البول، بينما تتألف نسبة الـ 1 في المئة المتبقية من أملاح معدنية (مثل: كلوريد الصوديوم، والبوتاسيوم، وبيكربونات). ويحوي البول أيضا مركبات غير عضوية مثل حمض اللاكتيك، واليوريا، والأمونيا، وفيتامين C، إلى جانب مخلفات العقاقير الدوائية التي قد يكون الشخص قد تعاطاها.
مفترَزة... وفارزة
وتقوم ملايين الغدد العرقية الموجودة أسفل الطبقة الخارجية لجلدك مباشرة بإفراز العرق، ومن ثم دفعه عبر المسام الجلدية إلى خارج الجسم.
وتحوي طبقات جلدك ما بين 2 و 4 ملايين غدة عرقية. وتنقسم تلك الغدد إلى نوعين ألا وهما: غدد مفترَزة وغدد فارزة. ويحوي كل نوع من الغدد العرقية خلايا عضلية يؤدي تقلصها إلى تصريف المفرزات العرقية المتراكمة إلى الخارج. ويتم التحكم في نشاط جميع الغدد العرقية والخلايا العضلية المحركة لها من خلال الجهاز العصبي الذي يستعين في تلك المهمة بهورمونات معينة يرسلها لتسهيل المهمة.
ومن بين المسببات لزيادة إفراز العرق: بذل جهد بدني شاق، وارتفاع درجة حرارة الجو، وبعض العوامل الوراثية، وفرط نشاط الغدة الدرقية، والبدانة، وعند الشعور بألم شديد أو غثيان.
وقد يستغرب كثيرون إذا علموا أن الغدد الشمعية الموجودة في الأذنين والغدد الثديية التي تفرز الحليب هي في الأصل الفسيولوجي غدد عرقية مُعدّلة.
لماذا تسيل دموعنا عند تقطيع البصل؟!
نشعر جميعا بإحساس الحُرقة الوخازة في العينين وسيلان الدموع تلقائيا منهما عند قيامنا بتقطيع البصل. فما السر الذي يقف وراء ذلك؟
ببساطة، السبب الرئيسي الذي يجعل عينيك تذرفان الدموع عند قيامك بتقطيع البصل هو أنه تنبعث منه مادة كيميائية مهيجة تعرف علميا باسم «سين-بروبينثيال-إس-أوكسايد» ، وهي مادة طورها البصل كوسيلة دفاعية ضد المفترسات.
فكل خلية في البصل تحوي حويصلة صغيرة مملوءة بإنزيمات محفّزة خاصة تحوّل الأحماض الأمينية «سالفوكسايد» إلى أحماض سلفينية، ثم تتحول هذه الأحماض الأخيرة بواسطة إنزيم آخر إلى مادة «سين-بروبينثيال-إس-أوكسايد» التي تتطاير بسهولة وبسرعة في الهواء بفضل كونها مركبا كبريتيا متطايرا.
وعلى الجانب الآخر، تحوي قرنية العين أعصابا خاصة تستقبل المعلومات وتنقلها فورا. وبمجرد أن تستشعر أعصاب القرنية وجود مادة «سين-بروبينثيال-إس-أوكسايد»، فإنها ترسل إشارة إلى الجهاز العصبي المركزي الذي يقوم بدوره بتنبيه الألياف العصبية اللاإرادية في الغدد الدمعية لتبدأ على الفور في إفراز الدموع من أجل تلطيف حدة تأثير مادة «سين-بروبينثيال-إس-أوكسايد» المهيجة.
... ولماذا نذرف دموعاً عندما نتأثر عاطفياً؟
بعيدا عن حالات ذرف الدموع عند تقطيع البصل أو بسبب دخول مهيجات في العين، ما زال العلماء حول العالم في حيرة من أمرهم إزاء أسباب قيامنا بذرف الدموع تحت تأثير انفعالات عاطفية ونفسية.
وهناك عدد من التفسيرات والنظريات في هذا المجال، وأرجحها هو نظرية التفسير التطوري. إذ يعتقد مؤيدو نظرية النشوء والتطور أن الإنسان يذرف الدموع في مثل تلك الحالات ليعطي للمحيطين به إشارة ظاهرية ليعبر لهم من دون كلام عن أنه يحتاج إلى مساعدة أو تعاطف من جانبهم؛ ويرى أولئك العلماء أن حاسة البكاء العاطفي ظهرت لدينا كبشر تحت تأثير ضغوط تطورية أدت بدورها إلى تطوير منظومة الإشارات الإيمائية لدى الإنسان في مراحل تطوره الأولى، وذلك كي يتمكن من التواصل مع الآخرين والتعبير عن مشاعره في صمت. ويعتقد ايضا أن لإفراز الدموع في مثلك تلك الحالات العاطفية تأثيرا ملطفا على المخ.
ووفقا للنظرية ذاتها، تطورت وظائف الدموع مع رحلة تطور الإنسان وسلوكياته، وبهذا أصبح للدموع أكثر من غرض. فهنالك أسباب وجدانية أو شعورية عدة قد تجعل الإنسان يذرف الدموع، بما في ذلك التعبير عن المعاناة من مشكلة شديدة، أو طلب المساعدة من الآخرين، والأطفال يبكون منذ لحظة مولدهم بالفطرة للحصول على اهتمام المحيطين بهم، كما قد يلجأ البعض أحيانا (وبالأخص الإناث) إلى الانخراط في البكاء كحيلة لكسب التعاطف أو الهروب من اللوم، إلى جانب أن دموعنا قد تسيل تلقائيا كنوع من التعبير عن الاعتراف بالذنب.
البول السليم... في الجسم السليم
على غرار مقولة «العقل السليم في الجسم السليم»، يمكن القول إن «البول السليم في الجسم السليم»، أي أن سلامة مكونات بول الشخص تعكس إلى حد كبير مدى سلامة أعضاء وأجهزة جسمه المختلفة.
وتكمن أهمية تحاليل البول مختبرياً في أنها تساعد في اكتشاف نسب ما قد يحويه من صديد وأملاح وزلال إلى جانب نسب مكونات أخرى تساعد الطبيب المعالج في عملية التشخيص تمهيدا لوصف الدواء المناسب.
في التالي نسرد أبرز المواصفات المعيارية العالمية التي يجب أن تميز مكونات البول الطبيعي، وهي المواصفات التي تعني أن جسم صاحب البول سليم ويتمتع بالصحة إجمالا إلا إذا كانت لديه أمراض أخرى لا تظهر تأثيراتها في البول ولا في الدم:
• اللون: أصفر كهرماني.
• المظهر: رائق (خالٍ من العُكارة) وشفاف نسبيا
• الرائحة: أروماتية نفاذة قليلا (لكن غير منفّرة)
• الكثافة النوعية: بين 1.003 و 1.035.
• غلوكوز (سكر بسيط): لا يوجد
• عصارة صفراوية: لا يوجد
• درجة الحموضة: بين 5 و 7.
• بروتين (زلال أو ألبومين): صفر أو نسبة لا يعتد بها، ووجوده يشي باحتمال الإصابة بمرض السكري
• أجسام كيتونية: صفر (أو نسبة لا يعتد بها).
• بيليروبين: صفر (أو نسبة لا يعتد بها).
• نيتريتات: صفر (أو نسبة لا يعتد بها)، ووجودها في البول على التهابات في المسالك البولية.
• خلايا دم حمراء: من 0 إلى 2
• كُريات دم بيضاء: من صفر إلى 4 في المليلتر
• خلايا بشرية: صفر (أو نسبة منخفضة)، ومن الطبيعي أن توجد نسبة قليلة جدا من الخلايا البشرية في البول.
• أجسام اسطوانية: صفر (وجودها يشير إلى احتمال التهابات في الكليتين، أو فشل كلوي مزمن)
• بلورات ملحية: صفر (وجودها يشير إلى احتمال وجود حصوات في الكليتين أو المثانة)
• بكتيريا أو خمائر: صفر (وجودها يدل على عدوى بكتيرية أو فطرية).