حلم ما زال بين سندان طموحات العلم ومطرقة قيود الأخلاقيات الطبية
زرع الرأس جراحياً... هل ستتحقق «المعجزة» في ديسمبر؟
عبدالعليم الحجار
1 يناير 1970
01:32 ص
سبيريدونو? مصاب بمرض فيردينغ-هوفمان غير القابل للشفاء
مبرمج الحواسيب الروسي سيصبح أول إنسان يخضع لعملية نقل وزرع رأسه
الجراح كانا?يرو أقر بخطورة العملية لكنه يؤكد أن حظوظ نجاحها تستحق المجازفة
العملية ستستغرق 36 ساعة متواصلة بمشاركة 150 من أمهر المختصين في مجالاتهم الطبية
انتقادات أخلاقية وتشكيكات مهنية موجهة ضد العملية الجراحية غير المسبوقة
ملف أسبوعي من إعداد: عبدالعليم الحجار
في مشهد يثير موجات من القشعريرة في البدن، يفصل الإيطالي سيرجيو كانا?يرو رأس الروسي ?اليري سبيريدونو? عن بقية جسده المشلول، ثم يشرع بعد مرور ساعة كاملة على ذلك في زرع ذلك الرأس المنفصل على جسم آخر سليم غير مشلول خاص بمتبرع متوفى دماغيا (لنفترض أن اسمه «س») بعد أن يقطع رأسه هو أيضا. وبهذا، يصبح رأس سبيريدونو? مثبتا على جسد كامل جديد (من الرقبة ونزولا) عوضا عن جسده الذي ولد به. أما جسمه ورأس المتبرع فيتم التخلص منهما نهائيا!
وهكذا، يصبح هنالك إنسان جديد مؤلف من رأس شخص وجسم شخص آخر، لتدور حوله موجات من الجدل والتساؤلات التي ليس أقلها: هل هذا الإنسان هو سبيريدونو? بجسم جديد أم أنه «س» برأس سبيريدونو?؟
هذا ليس مشهدا في أحد أفلام الخيال العلمي الممزوج بالرعب، بل من المتوقع أن يكون قريبا مشهدا حقيقيا غير مسبوق وأقرب إلى «المعجزات»، إذ من المرتقب أن يشهده عالم الطب في ديسمبر المقبل وسط طموحات وتطلعات وتخوفات وتحذيرات على إيقاع كونه «حلما» يقترب رويدا رويدا من التحقق على أرض الواقع الفعلي ليتشكل تحت تأثير التفاعلات المتبادلة التي يتلقاها من خلال وجوده حاليا بين مطرقة قيود الأخلاقيات الطبية وسندان طموحات تحقيق اختراقات طبية غير مسبوقة.
فما هي قصة سبيريدونو? وكانا?يرو، وماذا سيحصل تحديدا في ديسمبر المقبل؟ وما طبيعة الجدال العلمي والأخلاقي الدائر منذ أشهر حول ما سيحصل؟
هذا ما يستعرضه التقرير التالي:
رأسه سليم وطبيعي تماماً، بما في ذلك مخه وعيناه وأعضاء السمع والنطق. لكن بقية جسمه مصابة بمرض الضمور العضلي الشوكي المعروف طبيا باسم «مرض فيردينغ-هوفمان»، وهو مرض غير قابل للشفاء ولا ينجو منه إلا 10 في المئة فقط من المصابين به، وهو يدمر النخاع الشوكي ويسبب شللاً شبه كامل للجسم مع ما يصاحب ذلك من صعوبات شديدة في الحركة والتنفس والبلع والتبول والهضم.
إنه عالم تكنولوجيا وبرمجيات الحواسيب الروسي الشاب ?اليري سبيريدونو? الذي سيكون في الـ32 من عمره عندما سيخضع في ديسمبر المقبل لعملية نقل وزرع رأسه بالكامل جراحياً، ليصبح بذلك أول إنسان في التاريخ البشري على الإطلاق يخضع إلى مثل تلك العملية التي ستكون رائدة وغير مسبوقة، كما لا يمكن التنبؤ باحتمالات نجاحها إذ إنها ستكون محفوفة بعشرات من المخاطر المميتة غير المتوقعة والتي قد تظهر فجأة في أثناء إجراء الجراحة أو عقبها مباشرة.
أما الطبيب الذي سيتولى إجراء تلك العملية الأشبه بـ «معجزة»، فهو الجراح الإيطالي سيرجيو كانا?يرو الذي أقر في أكثر من مناسبة في السابق بصعوبتها الفائقة، كما أنه لم يستبعد حصول نتائج مأسوية، لكنه أكد وما زال يؤكد أن حظوظ نجاحها قائمة وتستحق المجازفة.
المريض المشلول سبيريدونو? مُقعد تماماً ويعيش حياته بشكل شبه كامل في كرسيه المتحرك الذي شارك بنفسه في تصميم برمجياته الالكترونية التي تتحكم فيه. وذلك المبرمج الشاب مصاب منذ صغره بضمور في العضلات ليس له شفاء، ومعظم المصابين بمثل ذلك المرض لا يعيشون أكثر من 20 عاماً، لكن أن سبيريدونو? هو من بين الـ 10في المئة الذين نجحوا في مواصلة الحياة إلى ما بعد ذلك العمر، لكن حالته الصحية تسوء عاما بعد آخر، لذا فإنه مصمم على المجازفة بالخضوع إلى تلك العملية الجراحية الفائقة التعقيد والخطورة.
والمرض المصاب به سبيريدونو? منذ مولده يشبه إلى حد كبير المرض الذي يعاني منه عالم الفيزياء البريطاني الأشهر ستيفن هوكينغ، ولذلك فإن نجاح عملية نقل وزرع رأسه جراحيا قد يمهد الطريق أمام تشجيع هوكينغ على أن يدرس فكرة الخضوع لها هو أيضا ليتمكن من النهوض والسير والحركة بشكل شبه طبيعي.
الجرّاح كانا?يرو أوضح في أكثر من مناسبة أن العملية المرتقبة التي ستتم تحت إشرافه ستتطلب مشاركة نحو 150 من أمهر المختصين في مجالاتهم الطبية، بما في ذلك أطباء جراحة من جميع الاختصاصات الطبية تقريبا، واختصاصيي تخدير وأشعة، وطواقم ممرضين، مشيرا إلى أن تكاليف إجراء هذه العملية ستبلغ ما بين 5 إلى 7 ملايين دولار إذا أجريت في داخل روسيا أو الصين بينما ستبلغ أكثر من ضعفي ذلك إذا أجريت في إحدى دول غرب أوروبا أو في الولايات المتحدة.
واستعرض كانا?يرو مخططا تفصيليا للعملية التي ستستمر على مدار 36 ساعة، من بينها ساعة سيبقى رأس سبيريدونو? منفصلا تماما عن جسمه خلالها، ثم سيبدأ بعد ذلك زرع رأس المريض الروسي على جسم متبرع مصاب أصلا بـ «الموت الدماغي» (بعد قطع رأس هذا الأخير) وذلك من خلال سلسلة عمليات جراحية فائقة التعقيد والحساسية وهي العمليات التي ستستغرق نحو 36 ساعة متواصلة وستشهد توصيل الأعصاب الرئيسيّة بين رأس سبيريدونو? وجسم المتبرع الميت دماغيا.
وبعد إتمام العملية، سيرقد سبيريدونو? في غيبوبة مصطنعة في غرفة عناية فائقة لمدة شهر كامل مع متابعته باستمرار حتى تلتحم كل النهايات العصبية بين الرأس والجسم. وبعد مرور عام كامل على إجراء العملية، ستجرى فحوصات تقييمية شاملة مع البدء في برنامج خاص لإعادة التأهيل من خلال تحفيز وتنشيط الجهاز العصبي بنبضات كهربائية خاصة.
ووفقا لكانا?يرو، فإنه في حال نجاح عملية زرع رأس سبيريدونو? وانسجامه مع الجسد الجديد، فإنه سيعقب ذلك برنامج لإعادة تأهيل رأس المريض كي يتمكن من الانسجام مع الواقع الجديد الذي سيتطلب منه أن يتعايش مع جسده الجديد الذي كان لشخص آخر أصلا.
فإلى جانب المشاكل الفسيولوجية المتوقعة المتعلقة بالتحام أنسجة رأس سبيريدونو? مع أنسجة جسد المتبرع، فإنه من المتوقع أيضا أن يعاني مخ ذلك المبرمج الروسي الشاب بعد زرع الرأس من مشاكل نفسية ستنجم عن عدم قدرته على أن يتقبّل التعايش مع الجسم الجديد الغريب، ولهذا السبب تحديدا فإنه يتم اخضاع سبيريدونو? لأشهر إلى جلسات واقع افتراضي بهدف تجهيز دماغه كي يتقبل نتيجة العملية التي لن تتطلب أن يتعايش مع عضو واحد، بل مع جسم كامل.
ورغم أن الجراح كانا?يرو كان نجح في السابق في إجراء عمليات نقل وزرع رؤوس على حيوانات تجارب عاشت بعدها لأسابيع قليلة، فهناك حملة انتقادات وتشكيكات متنوعة موجهة ضد العملية غير المسبوقة التي سيجريها على سبيريدونو?.
ومن بين تلك الحملة، تبرز تشكيكات في فرص نجاحها نظرا إلى تعقيد التشريح البشري مقارنة بتشريح حيوانات التجارب. كما تبرز انتقادات تتعلق بالأخلاقيات الطبية، إذ يحذر أصحاب تلك الانتقادات من أن هكذا عملية ستشكل انتهاكا صارخا وغير مسبوق لأخلاقيات الطب من جهات عدة، بما في ذلك أنها ستفتح الباب واسعا أمام التلاعب بقدسية الخلق البشري من خلال تشجيع آخرين على محاولة زرع رأس أنثى على جسم رجل أو العكس، أو حتى ازدهار شكل جديد من تجارة الأعضاء البشرية غير القانونية، ناهيك عما سيفرزه ذلك من انعكاسات سلبية متوقعة على كيان ونفسية الشخص المختلط الجديد الذي ستنتجه مثل تلك العملية.
سيناريو العملية
وفقاً للجراح الإيطالي سيرجيو كانا?يرو، فإن من المقرر أن يكون التنفيذ الفعلي لعملية نقل وزرع الرأس وفقا للسيناريو التالي:
سيعمل فريقان معاً بشكل متزامن لعمل شقوق جراحية عميقة حول رقبة كل من المتلقي والمتبرع لإظهار والكشف عن الشرايين السباتية والفقرية والوريد الوداجي وصولا إلى العمود الفقري.
بعد ذلك، سيتم عمل 3 شقوق جراحية خاصة لتثبيت العمود الفقري لاحقًا والوصول إلى الشرايين السباتية، والقصبة الهوائية، والمريء.
أما الجزء الأكثر أهمية في تلك العملية المعقدة فسيكون عند لحظة قطع الحبلين الشوكيين للمتلقي والمتبرع في وقت واحد معا، وذلك كخطوة أخيرة قبل الانفصال.
وبمجرد فصل رأس المتلقي، سيتم توصيله بجسم المتبرع عبر أنابيب خاصة ستربطه بالدورة الدموية للمتبرع لمدة ساعة تقريبا.
وخلال الساعة الزمنية الفاصلة بين قطع رأس سبيريدونو? وإعادة زرعها جراحياً على جسد المتبرع، سيتم حفظ وتبريد الرأس المقطوع في ظروف معينة لمنع خلايا الدماغ من الموت، وفي تلك الأثناء سيقوم كانا?يرو ومساعدوه بقص الحبل الشوكي من نهايتي الحبل الشوكي للرأس وللجسم مستخدما شفرة جراحية حادة تعتبر الأكثر دقة على الإطلاق، وذلك من أجل إضفاء معالم واضحة على نهايتي الحبل الشوكي مع ضمان اقل قدر من التأثير على الأعصاب.
وفي أثناء العملية، سيتم الربط جراحيا بين نخاع رأس سبيريدونو? ونخاع جسد المتبرع باستخدام مادة كيميائية خاصة تعرف باسم «بولي إيثيلين غليكول، ثم ستبدأ بعد ذلك سلسلة عمليات لتوصيل الأوعية الدموية والأعصاب والعضلات في منطقة الالتحام.
نتائج بحثيّة... مُبشرة
في الوقت الذي يواصل فيه الدكتور كانا?يرو استعداداته وتحضيراته للعملية، يواصل باحثون وجراحون تابعون لفريق العمل الذي يعاونه حول العالم تحقيق نتائج بحثية مبشرة وواعدة.
فلقد أعلن الجراح الصيني الدكتور «تشياو بينغ رين» - الذي سيشارك في إجراء العملية على سبيريدونو? - أنه قد نجح هو وفريقه في جامعة «هاربن» الطبية الصينية في فصل رأس قرد باستخدام الأساليب التي طورها كانا?يرو على مدار 30 عاما من الأبحاث المتواصلة.
لكن خلال التجارب التي أجراها الجراح الصيني، لم يتم فعليا إعادة زرع رأس القرد من خلال الحبل الشوكي، إذ إن الغرض من وراء التجربة كان فقط محاولة معرفة ما إذا كانت إمدادات الدم ستستمر بعد فصل الرأس. وقد استمر رأس القرد على قيد الحياة بعد هذا الإجراء من دون مضاعفات خطيرة، ولكن تم إعدامه بعد مرور 20 ساعة لاعتبارات أخلاقية.
محاولات زرع الرأس... استعراض تاريخي
يشير مصطلح نقل وزرْعِ الرَّأْس إلى نقل رأس كائن حي وإعادة زرعه جراحيا على جسم كائن آخر ينتمي إلى نفس النوع والفصيلة.
ومن المهم توضيح الفرق بين مفهوم «زرع الرأس» و«زرع المخ». فزرع المخ لا يشتمل إلا على نقل الدماغ فقط أو أجزاء منه، بينما زرع الرأس يعني نقل رأس بالكامل بما في ذلك جمجمته وبقية مكوناته التشريحية.
ووفقا لسجلات تاريخية طبية، سبق أن أُجريت عمليات نقل وزراعة رأس على كلاب وقرود وفئران على أيدي جراحين حول العالم، لكن النتائج في معظم تلك المحاولات كانت عدم قدرة تلك الحيوانات على التحرك بعد العملية، ثم موتها بعد ذلك بأيام معدودة.
نسلط في التالي الضوء بإيجاز على تاريخ محاولات نقل وزرع الرؤوس جراحيا:
• بتاريخ 14 مارس 1970، وتحت قيادة جراح الأعصاب الأميركي الشهير روبرت وايت، قام فريق من العلماء في كلية الطب بجامعة «كيس ويسترن ريزيرف» في كليفلاند بولاية أوهايو الأميركية بإجراء عملية زرع رأس قرد على جسم قرد آخر.
وكانت تلك العملية ناجحة إلى حدٍ ما، إذ بقي رأس القرد المزروع على قيد الحياة وظل قادرًا على الشم والتذوق والسمع والرؤية. شملت العملية كي الشرايين والأوردة بعناية بينما كان يجري قطع الرأس لمنع نقص حجم الدم. ولأن الأعصاب تُرِكت سليمة تمامًا، بقي الدماغ على قيد الحياة كيميائيًا نتيجة ربطه بإمدادات الدم. نجا الحيوان لبعض الوقت بعد العملية، حتى أنه حاول عضّ بعض الجراحين. وفي العام 2001، كرر الدكتور وايت العملية ذاتها بنجاح على قردين.
وقد كتب الدكتور وايت لاحقا مؤكدا على أن ما قام به هو إنجاز مهم يمهد لإنجازات مماثلة في المجال البشري. لكنه أضاف مستدركا: «لكن لمعرفة ما إذا كانت هذه العمليات ستُبرَّر في أي وقتٍ لاحق في المجال الإنساني، فإنه يجب علينا أن ننتظر ليس فقط التقدم المستمر في العلوم الطبية، بل ايجاد أيضًا المبررات الأخلاقية والاجتماعية لمثل هذه العمليات».
• بتاريخ 21 مايو 1908، نجح تشارلز كلود غوثري في زرع رأس كلب في عنق كلب آخر وبقي الرأسان على قيد الحياة لبضعة ايام.
• بتاريخ 13 يناير 1959، زرع الطبيب السوفياتي فلاديمير ديميكوف رأس كلب جراحيا، لكن الكلب مات بعد مرور بضع ساعات فقط لأسباب تتعلق بردود فعل الجهاز المناعي للجسم المتلقي.
• في 1959 أيضا، أعلن جراحون صينيون أنهم نجحوا مرتين في زرع رأس كلب على جثة كلب ميت حديثا.
• في 2002، أُجريت في اليابان عمليات نقل وزرع رؤوس على فئران تجارب. وعلى عكس عمليات زرع الرؤوس التي قام بها الدكتور وايت، شملت عمليات زرع الرؤوس اليابانية توصيل رأس فأر إلى جسم فأر آخر بحيث يبقى الفأر المتلقي هو ورأسه على قيد الحياة، أي يصبح للفأر رأسان.