ثقافة «النص نعل» والواقع اللبناني

1 يناير 1970 05:45 م
خلال فترة احتلال سورية لقطرها اللبناني الشقيق، تم تداول العديد من الروايات والنوادر عن كيفية تعاطي جنرالات الرئيس الراحل حافظ الأسد مع اللبنانين والتي كانت تصل حد الإساءة الجسدية والمعنوية. بطل تلك الروايات من دون منازع، هو اللواء غازي كنعان، رئيس جهاز الأمن والاستطلاع في لبنان، الذي مارس مهامه كمفوض سامي وحاكم عسكري للبنان نيابة عن حافظ الأسد حتى وفاة الأخير واستبعاد كنعان من قبل بشار الأسد، ثم تحجيمه إلى أن «انتُحر» في منزله في دمشق لمنعه من توريط النظام باغتيال رفيق الحريري.

من مقره في عنجر، قام أبو يعرب، كما أحبّ العديد من اللبنانيين تسمية حاكمهم العسكري، بإدارة شؤون البلاد والعباد، والحرص على أن تصبّ سياسة الحكومة اللبنانية واقتصادها في خدمة نظام الأسد الأب. يحكى أن أبو يعرب لم يتردد رغم دماثته وحنكته، في استعمال أساليب تحقيرية مع ضيوفه اللبنانيين، لعل أشهرها «الطليانية». على عكس تسميتها، «الطليانية» لا تمت للحضارة والرقي الإيطالي بصلة بل في الواقع تتضمن حركة سريعة من أبو يعرب حيث يقذف الشبشب (المشاية) من قدمه إلى يده، ثم يبادر إلى ضرب الشخص الذي يقابله على الوجه. فعروبة كنعان تضمنت تحقير ضيفه باستعمال الحذاء وهو وفق العادات العربية من أدنى درجات التحقير والازدراء.

ويبدو أن الطليانية ومشتقاتها الثقافية استمرت رغم رحيل الجيش السوري عن لبنان ورغم وفاة صاحبها كنعان. في الآونة الأخيرة ومع ازدياد الحديث عن عملية مرتقبة لـ «حزب الله» قد يشارك بها الجيش اللبناني في منطقة القلمون وبلدة عرسال اللبنانية ضد «داعش» و«النصرة» وفلول من الجيش السوري الحر، برزت أصوات لبنانية تدّعي حرصها على المؤسسة العسكرية، داعية إياها إلى البطش باللاجئين السوريين الذين يعتبرون، حسب عنصرية البعض، إرهابيين وذئابا في ثياب خراف. وصل الأمر بالعديد من المهللين للحل العسكري الى تداول شعارات وصور للحذاء العسكري عبر وسائل التواصل الاجتماعية الذي، وفق منطقهم، يجوز استعماله ضد بعض اللبنانين المعارضين لحفلة العربدة العنصرية التي تضر بالجيش وتضع لبنان في مدار العنف.

بالفعل أحفاد كنعان يشوهون صورة العديد من اللبنانيين الذين يمثل دعمهم للجيش ردة فعل طبيعية بل وطنية ضد خطر الإرهاب المتمثل بـ «داعش» وبالفلتان الأمني الناتج بطريقة غير مباشرة عن مغامرة بعض الأطراف المحلية في الحرب السورية. المفارقة هي أن «غلو» عشاق الجزمة هم انفسهم التيار الذي صمت ويصمت عن التعدي على هيبة الدولة والقوى الأمنية تحت ذريعة استعادة الحقوق أو حماية المقاومة وحزبها الغارق في المستنقع السوري. صمت تلك الجماعة المدوي عند مصرع النقيب الطيار سامر حنا في الجنوب اللبناني على يد أحد المرابطين، أو تناسيهم للجنود التسعة الذين يقبعون في الأسر الداعشي من دون أن يبادر هؤلاء الغيارى على الجيش عبر الضغط الشعبي على الحكومة وأركانها من أجل إجراء صفقة لتحريرهم.هذا الدعم الشعبي لم يشمل التضامن مع مطالب العسكريين المتقاعدين في ما يتعلق بإجحاف الموازنة المرتقبة وسلسلة الرتب والرواتب الظالمة بحقهم.

التدقيق في حملة التضامن أو التكاذب تلك يظهر نيات متفاوتة لركاب هذا القطار الشعبوي، كالمجموعة الأكبر التي تناصر التيار الوطني الحر، بقيادة صهر الرئيس ميشال عون، جبران باسيل، والتي تطمح إلى طمس تجاوزات رئيسها المالية والسياسية عبر الاختباء في ظلال المؤسسة العسكرية والتي تمثل بوجدانها بقايا المارونية السياسية البائدة. أما الانتهازيون منهم فيتمثلون بطبقة المشاهير التي تمنحهم هذه الحملة فرصة إضافية لكسب المزيد من المعجبين والمتابعين عبر تغريداتهم الداعمة للجيش أو صورهم في البدلة العسكرية المكوية والمفصلة على قياس غرورهم ونفاقهم.

أما الأكثرية المطلقة المغرر بها عبر الخطاب الشعبوي، فقد صور لها بأن التظاهرة التي دعا إليها بعض الناشطين اللبنانيين تهدف إلى مهاجمة الجيش والتصدي لدوره في حماية الوطن. لو كانت تلك الحقيقة، لما حصلت تلك المبادرة على رخصة من السلطات المختصة، قبل أن تتراجع لاحقاً عن قرارها إزاء الموجة الشعبية العارمة. المطالبة بنبذ العنصرية واحترام المواثيق الدولية لا سيما تلك المتعلقة بحق اللاجئين هي دعوة للمحبة وبطبيعة الحال ليس فيها مكان لبثّ الكراهية تجاه مؤسسة وطنية قدمت وتقدم الشهداء والتضحيات اليومية لحماية الحدود والداخل.

حماية الجيش والوطن تبدأ وتنتهي باحترام الدستور وسيادة الدولة وحرية المواطن اللبناني بالتعبير، والأصوات المعارضة، وعلى عكس مزاعم البعض، ترفض توريط الجيش في مخطط إقليمي آخر، والأهم أنها تمنع تحويل غازي كنعان و«الطليانية» إلى ثقافة سائدة حيث تعلو لغة الأحذية على لغة العقل.

makramrabah@gmail.com