مثقفون بلا حدود / مسائل متخصصة في إعراب القرآن الكريم (1 من 3)
| د. فهد سالم الراشد* |
1 يناير 1970
12:34 م
ذكر صاحب كتاب «ما تلحن فيه العامة في التنزيل»، الذي تم تحقيقه على أنه لجامع العلوم الباقولي الأصفهاني، وشكك بعض المحققين في ذلك، ذكر قوله تعالى في سورة آل عمران: 15 ?لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي? ضم التاء إجماع في ?جَنَّاتٌ? إلا ما روي عن يعقوب ?جَنَّاتٍ? بالكسر، على أن يكون بدلا من قوله : ?بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ? سورة آل عمران: 15. فأما قوله في سورة الأنعام: 99 ?وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ? بكسر التاء إجماع هنا ، إلا ما روي عن الأعمش و العطاردي و الأعمش من ضم التاء، وهو ضعيف، لأنهم رفعوه على الجوار، و لا يصح في المعنى لأن جنات من أعناب لا تكون من النخل، ورفعـُها يقتضي ذلك. فهو منصوب محمول على أنشأ أي و أنشأ جنات من أعناب و الزيتون و الرمان. و لو جاز رفع جنات جاز رفع الزيتون و الرمان، و هما لا يرفعانهما. و يسمع العامة يقرؤون: قنوانٌ دانية ٌوجناتٌ من أعناب، وهو كما أعلمتك. و أما قوله: ?وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ? سورة الرعد: 4 ؛ فالرفع لا غير بالعطف على? قِطَعٌ?، و غيره لحن.
ووردت هذه الآية (آل عمران: 15) في كتاب « كشف المشكلات وإيضاح المعضلات « لجامع العلوم الباقولي الأصفهاني، ولكنه لم يتوسع في شرحها حيث ذكر: قوله تعالى: ?قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ? تم الكلام عند قوله ?ذَلِكُمْ?، ثم قال: ?للذين اتقوا عند ربهم جنات? فـ ?جَنَّاتٌ? مبتدأة. و?لِلَّذِينَ اتَّقَوْا? خبره. وقوله: ?خَالِدِينَ فِيهَا? حال من (الذين) المجرور باللام».
- ووردت هذه الآية (آل عمران: 15) في كتاب « إعراب القرآن المنسوب إلى الزجاج « والذي قمنا بتحقيقه على أنه كتاب «جواهر القرآن» لجامع العلوم الباقولي الأصفهان، وشكك بعض المحققين في ذلك، وزعم بعض المحققين أنه لمكي بن أبي طالب القيسي القيرواني، صاحب كتاب «مشكل إعراب القرآن»، وردت هذه الآية أربع مرات:
في المرة الأولى استعرض آراء بعض النحاة حيث قال: « فأما ما ذهب إليه أبو إسحاق في قوله تعالى: ?لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا? من أنه يجوز أن يرتفع ?جَنَّاتٌ? بإضمار مبتدأ على تقدير: ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار، فحذف المبتدأ، فباطل أن يبقى قوله: ?خَالِدِينَ فِيهَا?، لا ناصب له و لا عامل يعمل فيه، و إنما يرتفع ?جَنَّاتٌ? بالظرف، على قول الأخفش / فيكون ?خَالِدِينَ? حالا من المجرور باللام . وإن رفعته بالابتداء و جعلت في الظرف ضميراً كان الحال عنه». و قال في المرة الثانية: فأما قوله تعالى: ?قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ?، فإن جعلت «اللام « متعلقة (بأنـَبـِّئـُكـُمْ)، جاز الجر في(جـَنـَّاتٍ) على البدل في (خـَيـْرٍ)؛ و إن جعلته صفة (خـَيـْرٍ) لأنه نكرة، جاز الجر في (جـَنـَّاتٍ) أيضا. وإن جعلتها متعلقة بمحذوف لم يجز الجار في ?جَنَّاتٌ? / وصار مرتفعاً بالابتداء أو بالظرف، ولم يجز غير ذلك، لأن اللام حينئذ لا بد لها من شيء يكون خبراً عنها». و قال في المرة الثالثة وقد صرح فيها عن رأي سيبويه، الذي غمطه في المرة الثانية، حيث قال: ومن ذلك قوله: ?قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي?. يرتفع/ ?جَنَّاتٌ? بالابتداء، و ?لِلَّذِينَ اتَّقَوْا? خبر عند سيبويه. ويرتفع ?جَنَّاتٌ? بالظرف عند الأخفش. ولا يكون ?لِلَّذِينَ اتَّقَوْا? صفة للمجرور قبله، وهو (خـَيـْرٍ)، لأنه لا ذكر فيه يعود إلى الموصوف. ألا ترى أن الضمير الذي فيه، على قول سيبويه، ضمير ?جَنَّاتٌ?، ولا ضمير فيه على قول الأخفش لارتفاع الظاهر به. وينتصب قوله: ?خَالِدِينَ فِيهَا?، على الحال من (الذين) المجرور باللام. ?وَ أزْواجٌ?عطف على ?جَنَّاتٌ?. وكذا قوله: ?وَرِضْوَانٌ?. أما في الموضع الرابع و الأخير فذكر هذه الآية على سبيل الاستشهاد فقط.
وردت هذه الآية (آل عمران: 15) في كتاب «مشكل إعراب القرآن « لمكي بن أبي طالب القيسي القيرواني، وقد أسهب في شرحها حيث قال: « قوله: ?جَنَّاتٌ?. ابتداء و(الذين) الخبر، واللام متعلقة بالخبر المحذوف الذي قامت اللام مقامه بمنزلة قولك: لله الحمد. ويجوز الخفض في ?جَنَّات? على البدل من ?بِخَيْرٍ? على أن تجعل اللام في (الذين) متعلقة (بأنـَبـِّئـُكـُمْ) أو تجعلها صفة لخير، ولو جعلت اللام متعلقة بمحذوف قامت مقامه لم يجز خفض ?جَنَّاتٌ? لأن حروف الجر والظروف إذا تعلقت بمحذوف تقوم مقامه، صار فيها ضمير مقدر مرفوع واحتاجت إلى ابتداء يعود عليه ذلك الضمير كقولك: لزيدٍ مالٌ وفي الدارِ زيدٌ وخلفـَكَ عمرو فلا بـُدَّ من رفع ?جَنَّاتٌ? إذا تعلقت اللام بمحذوف ولو قدرت أن تتعلق اللام بمحذوف على أن لا ضمير فيها لرفعت ?جَنَّاتٌ? بفعلها وهو مذهب الأخفش في رفعه ما بعد الظروف وحروف الخفض بالاستقرار، وإنما يحسن ذلك عند حذاق النحويين إذا كانت الظروف أو حروف الخفض صفة لما قبلها؛ فحينئذ يتمكن ويحسن رفع الاسم بالاستقرار. وقد شرحناه بأبين من هذا في مواضع أخرى في هذا الكتاب، ومثلناه بأمثلة وكذلك إن كانت أحولاً مما قبلها «.
نخلص من ذلك: أن مسألة ضم التاء في (جنات) من قوله تعالى: « للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري « قد أخذت حظا ونصيبا وافرا من الشرح والتفصيل في كتاب « إعراب القرآن المنسوب إلى الزجاج». أما جامع العلوم الباقولي في كتابه «كشف المشكلات وإيضاح المعضلات»؛ فجاء كلامه حول هذه المسألة مقتضبا جدا ولم يقف عندها كثيرا. غير أن مكيا بن أبي طالب القيسي القيرواني» في كتابه «مشكل إعراب القرآن» ، قد أسهب القول في شرح هذه المسألة، مثلما جاء في كتاب «إعراب القرآن المنسوب إلى الزجاج». وهناك عبارتان توحيان بتشابه الطرح. وواضح فيهما أسلوب المعلم. الأولى استخدمها صاحب كتاب ما تلحن فيه العامة في التنزيل؛ وهي (وهو كما أعلمتك) والثانية استخدمها صاحب كتاب مشكل إعراب القرآن؛ وهي (وإنما يحسن ذلك عند حذاق النحويين ... وقد شرحناه بأبين من هذا ... ومثلناه بأمثلة وكذلك) والله أعلم.
* كاتب وباحث لغوي كويتي
fahd61rashed@hotmail.com