الرقص على قبور الطغاة

1 يناير 1970 05:44 م
«نياية عن الجامعة الأميركية في بيروت، اعتذر عن عدم دفاعنا عن العظم في الماضي، حينما اضطهد بسبب شجاعته الفكرية، فالباحثون قد يكونون على صواب أو على خطأ، ولكن لا يمكننا السماح لأحد باضطهادهم بسبب افكارهم او معتقداتهم، فاضطهاد العظم لشجاعته الفكرية كان انحرافاً عن القاعدة، في اخر المطاف هدفنا تشجيع باحثينا على القيام بمثل تلك الخطوات».

بتلك الكلمات، افتتح رئيس الجامعة الدكتور فضلو خوري أعمال مؤتمر «صادق جلال العظم - فكره وإرثه». ولعل التكريم الفعلي للعظم هو قيام الجامعة الأميركية وبعد انقضاء 47 سنة على طرده من جسمها التعليمي، بتلك البادرة الأخلاقية والاعتراف بتقصيرها بالدفاع عنه بعد أنْ اضطهِدَ و سُجِنَ بموافقة أعضاء من إدارة وأساتذة الجامعة آنذاك.

العظم بمواجهة «الحقيقة»

درس العظم الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت وأكمل شهادة الدكتوراه في جامعة ييل في الولايات المتحدة، حيث عاد إلى بيروت سنة 1964 ليلتحق بدائرة الفلسفة في الجامعة الأميركية التي كانت عرين أستاذ الفلسفة ووزير الخارجية اللبناني السابق شارل مالك.

فمالك، السياسي المخضرم الذي أطلق عليه تلامذته لقب الحقيقة The Truth، اشتهر بغلوّه للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، نظر إلى الأستاذ الدمشقي اليافع الذي كان تحت التأثير الماركسي بنظرة من الشك، ووضع العقبات في وجه مسيرته الأكاديمية، ومنع ترقيته وتثبيته في وظيفته، مما أجبر العظم على الانتقال إلى دائرة الدراسات الثقافية (Cultural Studies).

ازداد اضطهاد رموز اليمين اللبناني، وبعض الأطراف العربية للعظم بعد هزيمة حرب 1967، وسطوع نجم الثورة الفلسطينية كخيار شعبي غير تقليدي لتحرير فلسطين. فبعد الهزيمة المدوية للأنظمة العربية، انتقد العظم، عبر كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، التجربة الناصرية التي فشلت في طرح مشروع تحرري فكري ديموقراطي.

أدّى صدور كتابه نقد الفكر الديني، سنة 1969، إلى فتح أبواب جهنّم في وجه العظم الذي تعرض للملاحقة القضائية من قبل السلطات اللبنانية التي تحركت بعد شكوى مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد، وسجنت الكاتب لوقت قصير، وتمّ إخلاء سبيله بعد تدخل وزير الداخلية آنذاك كمال جنبلاط. اقتنص أعداء العظم، على رأسهم أستاذه السابق شارل مالك، الفرصة لطرده بموافقة مع رئيس الجامعة وقتها، صاميول كيركود، الذي امتنع عن الدفاع عن خريج الجامعة وعضو الهيئة التعلمية فيها، الماركسي الملحد بنظر الرأي العام اللبناني.

خيانة ذوي القربى الأكاديمية، دفعت بالعظم إلى مغادرة لبنان باتجاه الأردن حيث درّس في الجامعة الأردنية، ثم عاد إلى سورية حيث التحق بجامعة دمشق حتى تقاعده سنة 1999.

العظم الثوري

معرفتي العلمية بالعظم اقتصرت صراحة بحادثة طرده من الجامعة ومحاكمته التي وثقته في كتابي A Campus at War، ودور الطلاب آنذاك في محاولة ثني إدارة كيركود عن صرف أستاذهم المحبوب.

ولكن شاءت الصدف أن ألتقيه، أنا وصديقي رئيس مكتب «الراي» الكويتية في واشنطن، حسين عبد الحسين، في خريف سنة 2009 في بوسطن أثناء انعقاد مؤتمر MESA السنوي الذي يعنى بدراسة الشرق الأوسط. وقد تكرم علينا العظم بمقابلة أجراها معه حسين حول تجربته وآرائه في الإصلاح والديموقراطية.

بصوت هادئ وذهن صافٍ، ومن وراء نظاراته السميكة، شخّص العظم المشكلة في العالم العربي ببساطة تامة: «الحرية والديموقراطية». فمن جهة «الحركات الإسلامية مثل حماس وحزب الله والقاعدة، لم تتعلم الدروس من حركات التحرر الناجحة، بل تقوم بقتل شعبها، وتنقصها الديموقراطية». أما الانظمة العربية تقوم بقمع شعوبها. فالعظم اعتبر أن النظام السوري يستطيع أن يخطو خطوات كبيرة بحال قام بشار الأسد برفع قانون الطوارئ «حتى لو تم رفع قانون الطوارئ بحدود 40 في المئة، نكون حققنا قفزة هائلة».

بالرغم من نصيحة العظم المعتدلة لنظام الأسد، أدى نشر المقابلة إلى منع المفكّر الشامي من العودة إلى الوطن، كما قال لي عندما التقيت به مصادفة في بيروت بعد أشهر قليلة على انطلاق الثورة السورية سنة 2011.

«بدكن حرية يا كلاب»!

كلام العظم في بوسطن، كان أول ما تبادر إلى ذهني لدى مشاهدتي أحد أوائل الفيديوهات مع بداية الثورة التي وثقت قمع أجهزة بشار الأسد للمتظاهرين العزّل وبالتحديد فيديو يظهر قيام عناصر من المخابرات بالدوس على رؤوس المعتقلين وشتمهم «بدكن حرية يا كلاب».

فالعظم كما حال السوريين، لم يطلب في بداية الأمر بإسقاط نظام الأسد، بل طالب بمساحة من الحرية وبعض الإصلاحات، ولكن النظام البعثي الحديدي لم يكن لديه النية أو حتى المعرفة بتحقيق أي من تلك المطالب رغم تواضعها.

فالعظم، كما هو حال العديد من المثقفين المتنورين، بادروا إلى دعم الثورة السلمية في البداية وحتى ذهب البعض منهم، وعلى رأسهم العظم بدعم العمل المسلح «للإطاحة بالنظام القديم المهترئ والمتداعي والذي لم يعد قابلاً للحياة». بطبيعة الحال، أدّى موقف العظم هذا إلى اتهامه بالمذهبية وبالاستزلام إلى الغرب الإمبريالي، كون نظام الاسد بنظر هذه الطبقة المناهضة للعظم، هو اخر معقل لمحاربة الإمبريالية و استكبار الغرب.

فتجربة العظم النقدية والنضال السياسي والفكري للعديد من أنصاره ركزت بالتحديد، على ضرورة تحرير العقل قبل تحرير الأرض، خاصة بعد فشل الأنظمة والقوى الشعبية، وعلى رأسها الثورة الفلسطينية.

وتلك المقاربة الثورية والتحررية للعظم سيطرت على معظم مجريات المؤتمر حيث عالجت ثلة من المثقفين والأكاديميين مساهمات العظم الفكرية التحررية، بدأ من مقاربته للمدرسة التي أسسها المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد وموضوع الاستشراق، أو ما اعتبره العظم الاستشراق المعكوس Orientalism and Orientalism in Reverse. كما تطرأ العديد من المحاضرين إلى مواضيع عالجها العظم خلال مسيرته، كنقد الفكر الديني ومحاربة الاستبداد وتفكيك الأسطورة.

ثقافة الاحتلال

ولكن العظم المثير للجدل في حياته كذلك في مماته، حضر بشكل أوضح في الجلسة الأخيرة من المؤتمر، تحت عنوان «الالتزام صادق جلال العظم السياسي»، التي تحولت إلى حلبة من الجدل الفكري العنيف الذي تخلله تهجم من أحد الحضور بطريقة همجية على أحد المحاضرين، في الجلسة التي أدارها مدير مركز الفنون والإنسانيات الدكتور عبدالرحيم أبو حسين، وقدّم فيها الباحث اللبناني ربيع بركات والباحث السوري ثائر ديب، مطالعتين عن العظم والثورة السورية مع تعقيب من الدكتور بشار حيدر، أتى كمسك الختام.

ركز بركات بتشريحه على زلات العظم السياسية وتصريحاته المتناقضة منذ اندلاع الثورة، التي أصر بركات على تسميتها بالأزمة السورية، كدليل على فشل رهان العظم على إسقاط النظام. و كذلك وضع بركات، العظم، بإطار المهلل للخارج وتماديه بالاعتماد على أعداء الأسد لقلب النظام، كما انتقد تصريحاته بحتمية زوال العلوية السياسية والنظام البعثي. فبركات استخلص بأن العظم كما هو حال العديدين من المثقفين المنضويين في الثورة، ركزوا على الخطاب الشعبوي وتناسوا، حسب تحليل بركات، تشخيص أسباب الأزمة مما ساهم في هزيمة خطهم السياسي.

أما ثائر ديب فقدم تحت عنوان «النقد الثقافوي للسياسة والمجتمع: النقد الذاتي بعد الهزيمة نموذجاً» والذي عالج فيه أبرز المثقفين السوريين كنزار قباني وسعدالله ونوس وأدونيس... اتت هادئة في إطار أكاديمي ركز على العمق الثقافوي السوري.

ختم حيدر المداخلات بمناقشة النقاط التي أثارها كل من بركات وديب مختلفاً عن توجه الأول الذي رسم ارتهان العظم للخارج بطريقة خاطئة، مقدماً أمثلة للدفاع عن أفكار العظم وبالتحديد بأن فشل رهان العظم لا يستنتج منه سقوط الفكرة.

فرد حيدر،على لوم بركات العظم على عدم تبصره للمغامرة التي قام بها، أي دعم الثورة بوجه الأسد، ببساطة بأن فشل العرب بتحرير فلسطين لا ينفي صوابية القضية الفلسطنية.

رغم حدة النقاش بين المتحاورين، بقي الجدل ضمن أصول اللعبة الأكاديمية التي التزم بها كل من بركات وديب وحيدر، حتى بادر أحد الحضور إلى التهجم على حيدر بعد تعليقه على أحد الاسئلة، متهماً إيّاه كما العظم، بكونهما مثقفي الاحتلال الذي هو بطبيعة الحال غربي وأميركي.

فسخافة هذا المعلق ضمن الجمهور والطريقة الهمجية التي حاول بها الدفاع عن مداخلة بركات - الذي أكد بركات رفضه أسلوب الشبيح المتنمر - أتت لتؤكد على العديد من أفكار العظم وبالتحديد موضوع الحرية والاستبداد، فإن مثقفي الاحتلال، هي تهمة لا تصح على حيدر أو على العظم لاعتبارات واقعية عدة:

أولاً، لأن الاحتلال لسورية هو احتلال روسي وإيراني بمباركة أميركية، وبشار حيدر هو بالتأكيد ليس من أنصاره.

ثانياً، أن أفواج الممانعة المنضوية تحت راية إيران في العراق تحظى بدعم وغطاء جوي أميركي بمباركة الحكومة العراقية، وأكثرية الشيعة العراقيين ولكن تحت ذريعة محاربة «داعش».

فمثقفو الاحتلال هنا، هم أبواق النظامين الأسدي والإيراني الذين يبررون انتهاكاتهم لحرية الناس وقصف المستشفيات والأسواق الشعبية متذرعين بتحرير فلسطين أو بمحاربة «داعش».

الخلاصة الحقيقية لمؤتمر صادق جلال العظم في ضوء مجريات النهار الثقافي الحافل، ومن ضمنها الحلقة الأخيرة بالتأكيد هي التالي: يجدر بمثقفي الاحتلال الحقيقيين النظر إلى تجربة العظم واضطهاد الأنظمة له، وأخذ العبر بأن مصيرهم ضمن تلك الانظمة القمعية هو حتمي في حال غضب الحاكم منهم، في حين أن في شرق العظم المرتجى، على كل إنسان أن يدفع ثمن جرائمه وليس أفكاره.

إن صادق جلال العظم، كنهج فكري، يبقى أحد أهم المساهمات الفكرية النهضوية قي المشرق العربي. ورغم اضطهاده عبر السنوات، يعودُ الفيلسوف الملحد المتنور الثوري، إلى جامعتِه معزّزاً مكرماً حتى لو بعد حين، في انتظار أن ترقص شعوب المنطقة «على قبور الطغاة».