هكذا كسَر صادق جلال العظم صمْته في حواراتٍ مع «الراي» يوم ارتفع صوت شعبه
«شيخ العقلانيين» غادَر حين غدَر «الجنون» بـ... حلب
| بيروت - من وسام أبو حرفوش |
1 يناير 1970
08:45 م
... ربما لم تكن مصادفة رحيل صادق جلال العظم في اللحظة التي بدت حلب كأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة. فهذه الشخصية التاريخية (82 عاماً) التي خبرت التمرّد باكراً، لم يَرُق لها نحْر المدينة الأقدم في العالم وتدميرها بطوفانٍ من الكراهية والبراميل المتفجّرة وبالتكافل والتضامن بين الفجور و... الصمت. فقرّر المحارب القديم الذي أتعبه مرضٌ اسمه الظلم أن ينكّس عينيْه على نكسةٍ تضاهي بمرارتها هزائم جيله.
لم يمت صادق جلال العظم على سريره في سورية التي سكنتْ حبره وحبّه وحربه و... نخاعه الشوكي. ولم يرحل بأسارير مُطْمَئنة الى مستقبل بلادٍ حلم بربيعها حتى في خريف العمر... مات الارستقراطيّ الدمشقي المشاكِس نازحاً في ألمانيا ولاجئاً اليها كملايين السوريين الذين غادروا مدنهم والأرياف بعدما غدر بهم الجميع، الشرق والغرب، النظام المُسْتَأْسد والمعارضة الهشة، سماسرة العلمانية والاسلاموية المشبوهة والمتوحّشة.
مات صادق جلال العظم، الذي لم يتعبه صراعه المديد، ألف موتة وموتة قبل ان يلملم وبصمتٍ صوته الناقم وكتبه... هالَهُ ما حلّ بحلب، ثالث أكبر مدينة في الشرق بعد اسطنبول والقاهرة. فهذا الذي كافح طويلاً لإعلاء شأن «العقل»، اغتاله الجنون الذي جعل من تلك المدينة «بركة دمٍ» تسبح فيها أشلاء الأطفال والأحلام، وعلى جنباتها مقابر جماعية لجثث ومناشير طالبتْ بالحرية ومزّقتها طائرات «السوخوي».
لم يرَ صادق جلال العظم، المفكر والفيلسوف، شيخ العقلانيين العرب، في أحداث سورية «مجرد حركة احتجاجية». أصرّ مع انفجار الصراع في مارس 2011 على أن ما يحدث هو ثورة أعلن انحيازه لها ظالمة او مظلومة، علمانية كانت أم إسلامية. ظنّ ان السوريين الذين كسروا حاجز الخوف لن يعودوا الى القمقم... ربما لم يدرك ان سورية ومدنها وشعبها ستتحوّل كبش محرقة لـ «لعبة الأمم».
أوّل ما «كسر الصمت» حيال ما يجري في بلاده كان حواره مع «الراي» منتصف مارس 2011، وبعدها كرّت السبحة مع صادق جلال العظم الذي خصّنا بخمس مقابلات في أربعة أعوام أجرتْها معه الزميلة القديرة ريتا فرج وتناولتْ شؤون وشجون الثورة في سورية وتَموُّجاتها وظواهرها والمواقف الاقليمية والدولية منها، وخصوصاً في لحظةِ جرّها الى العسْكرة واقتيادها الى العنف.
كان ابن العائلة الأكثر ثراء في بلاده يقيم في قلب الثورة رغم وجوده في المنفى خشية اعتقاله... «ثورته» كمفكّر علماني بدأتْ باكراً على وقع الضوضاء التي أحدثها كتابه الشهير الصادر العام 1969 «نقد الفكر الديني» كأوّل الغيث في سلسلة كتب ذات طبيعة فلسفية، منها: الاستشراق والاستشراق معكوساً، ما بعد ذهنية التحريم، دفاعاً عن المادية والتاريخ، وفي الحب والحب العذري...
مع وفاة العظم في زمن حلب بدا وكأنهما استشهدا معاً بـ «مرضٍ خبيث»، واحدٌ أصابه في الرأس وأخرى أصابها في القلب. فأحد رموز «ربيع دمشق» كان في طليعة الذين تلقّفوا ثورة شعبهم في سورية. وها هي حلب التي استمرّت عصية على مدى أربعة أعوام تلاقي حتفها بين فكّيْ كماشة... أشرار خطفوا الثورة باسم الدين، وطغاة انقضّوا عليها في حربٍ لم تعد فيها سورية سوى جغرافيا لتصفية حسابات التاريخ ورسْم معادلات المستقبل.
صادق جلال العظم كأنه غادر مع العائلات التي رحلتْ عن حلب بعدما صال وجال كثيراً منذ ان تخرّج بدرجة امتيازٍ في قسم الفلسفة في الجامعة الاميركية في بيروت العام 1957 ليحصل بعدها على دكتوراه من جامعة «ييل» في الولايات المتحدة في الفلسفة المعاصرة، قبل ان يتحوّل أستاذاً في الفلسفة والفكر العربي المعاصر في جامعات عدة في الولايات المتحدة وبيروت وعمان ودمشق وطوكيو وبروكسيل وسواها.
في حواراته المتعددة مع «الراي»، لم يكن صادق جلال العظم يتوقع ان «العالم الحر» سيدير ظهره لما يُرتكب من مجازر في بلاده وان القيصر الروسي سيرمي بثقله لرسْم معالم استعمار جديد يعيد التوازن مع الغرب، وان «محور الممانعة» سينخرط بقضه وقضيضه في حربٍ هائلة تؤسس لحروبٍ، وان معارضة الخارج سيأخذها «البزنس»، وان العرب المتروكين لشأنهم على قارعة العالم سيلهون بأزماتهم.
لم يكن يدرك أحد رواد الحداثة في العالم العربي انه حين أغمض عينيْه، كانت عدسات العالم ترصد «مأساة القرن» في حلب. فرغم انه اجتهد كثيراً في الرهان على إرادة التغيير لدى شعبه، فانه استشرف في العام 2013 ان الغرب في لا وعيه يميل الى عدم حسْم الأزمة السورية «فهذا الغرب باقٍ على موقفه المتفرّج»، لكنه وككلّ مرة كان يصرّ على «ان أفق الثورة مفتوح وغير مسدود، والمجتمع الدولي مضطرّ في النهاية لضبط حركته على إيقاعها المستقل».
وكان العظم يقدّم كل مرة في الحوار معه «أفكاراً شائكة»، فهو لا يحبّذ الدوران في المكان عيْنه. تجده تارةً يتحدث عن «إسلام التوتر العالي»، وعن «الجهاديين الجوّالين» وعن «مشاة الثورة»، وتارة أخرى عن ان «الإسلام الشعبي» سيقلّم أظافر «الجهاديين الطالبانيين»، وان «الأبد السوري» انتهى الى غير رجعة رغم مضيّ النظام في خياراته حتى النهاية.