علي الرز / بلورة كوشنير وبوصلة دمشق
1 يناير 1970
11:03 م
|علي الرز|
«ربما كان لها علاقة بمخيمين»... قالها وزير الخارجية الفرنسي برنارد كوشنير في تعليقه على الحشود العسكرية السورية عند الحدود الشمالية للبنان، وكأنه يتحدث عن «ولد مشاغب» وأب لا يستطيع تربيته بالشكل السليم وجار يمكن ان يتحمل مسؤولية ضبط الولد وضمان عدم انتشار شغبه الى خارج منزله او مخيمه بما في ذلك امكانية الاعتداء على مقيم فرنسي في لبنان.
بهذا المنطق، قد يرى كوشنير غدا علاقة مفترضة بين ازدياد الحشود السورية والحذر من منطقتين وبعد غد بشارعين وبعده بمكتبين وبعده بشخصين... واذا تهاوى المنطق اكثر فربما نسمع تصريحا لكوشنير يتحدث عن علاقة مفترضة بين الحشود وبين فكرتين او رؤيتين او تصريحين او كتابين.
هما، اذا، مخيمان او... إشارتان. ربما كانا دقيقتين او ساعتين او يومين او شهرين او سنتين. ربما كانا طريقين او مدينتين او حزبين او دولتين او شعبين. المهم انهما اشارتان اطلقهما «العالم» كوشنير وترك لنا تقدير تفسير نتائجهما او اللجوء الى مختصين في علم «البعثولوجيا» لتوضيح سر الحبل السري الدائم القائم بين من يرسل الحشود مشرقيا من جهة وبين من يبرر فعلته غربيا من جهة اخرى.
منذ اليوم الاول لوصول ساركوزي وفريقه الى سدة الرئاسة، ونحن بحاجة الى «بصارة براجة» لفهم السياسة الفرنسية الجديدة تجاه لبنان. بحاجة الى فيلسوف ليشرح فلسفة التغطية الدولية لممارسات مزمنة مغلفة بتغييرات لغوية. فلسفة تعتبر استمرار الاغتيالات «عملا مؤسفا»، واجتياح عاصمة جزءا من «خلاف سياسي» بين سلطة ومعارضة، واحتشاد آلاف الجنود عند الحدود أمر «يتعلق بمخيمين».
منذ اليوم الاول لتسليم الرئيس جاك شيراك الرئاسة الى خلفه ونحن نسمع، ونرفض ان نصدق، ان موفدي ساركوزي الى دمشق عرضا ربع تسوية مقابل نصف حل، ثم نصف تسوية مقابل... ربع حل، ثم اضطر الرئيس الفرنسي ان يتحدث شخصيا ليبدد مخاوفنا، نافيا ان يكون موفداه الى دمشق طرحا «ضمانة» أولية تتعلق بالمحكمة الدولية ترتكز على «تأخير التمويل» او ادخالها في دهاليز المشاكل الفنية والتقنية. يومها اعلن ساركوزي بحزم ان التمويل متوافر وان كل الدول ستدفع حصصها في الوقت المحدد، ثم تفاقم حضور المتطرفين السنة في المشهد الاعلامي والمتطرفين الشيعة في المشهد السياسي، وجميعهم يتغذى من ضرع واحد انتاجه كامل الدسم. نجح «المايسترو» في تغيير هوية الصراع السياسي اللبناني واضطر العالم الى الانصات الى معزوفته بعد صد لانه اثبت موهبة خارقة في الاستدراج وتفخيخ الطرق المؤدية الى «مسارح» اخرى.
هما مخيمان استدرجا عشرة آلاف جندي سوري الى الحدود الشمالية. يقولها كوشنير قافزا فوق حواجز القلق، فمن حق الانظمة ان تحمي امنها ووجودها خصوصا في مرحلة التحولات التي تقتضي نزع الصواعق من ايدي من تسلموها في رحلة الذهاب الى العراق وزيارة الفتنة الى لبنان. والعالم بالطبع لا يملك وقتا ليضيعه في البحث عمن دعم هذه الظاهرة وغذاها ووظفها في سياساته. لا يملك وقتا للتفكير في كيفية «الانسحاب التكتيكي» الذي قام به شاكر العبسي من سجن سوري الى مخيم لبناني مؤسسا «فتح الاسلام» ولا في الخروج الملتبس للعبسي من المخيم الى سورية. هو يملك وقتا للاشادة بمواجهة السلطات السورية لبعض «التكفيريين» في الداخل وعلى الحدود، وللاشادة بالمفاوضات السورية الاسرائيلية، والاشادة بمحاولات فرنسا وتركيا وبعض الدول العربية ابعاد سورية عن ايران، والاشادة بتعهد السلطات السورية اقامة علاقات ديبلوماسية مع لبنان... الى غيرها من امور «اساسية» تغطي بالطبع على حشد القوات عند الحدود.
قبل خمس سنوات، رسم احد اعمدة النظام السوري بهجت سليمان، خريطة طريق لما يمكن ان يحدث في حال اضطرت سورية للانسحاب من لبنان. قال ان سورية ستكون في حل من المسؤولية عن حركة «حزب الله» مما قد يعيد توتير جبهة الجنوب، وان التطورات وفرت «مناخ نمو الأصولية الإسلامية ورجحان كفتها بما لا يقاس بموازين القوى التي كانت قائمة لدى نشوب الحرب اللبنانية عام 1975، وبمعنى أوضح، فإن الحاجة الى سورية كعنصر توازن ستظل قائمة، بل وستصبح أشد، في ظل اختلال التوازن الديموغرافي (اللبناني) وتزايد نفوذ الأصوليين وارتفاع الأصوات التي تطالب بإعادة صياغة السلطة». ليخلص الى... «وهكذا كان دور سورية دائماً في لبنان، يحافظ على البوصلة واتجاهها الصحيح، ويمنع انفلات الأمور التي تنقلب وبالاً على الجميع».
اقتنعت الآن يا سيد كوشنير ان الحشود تتعلق فعلا... بمخيمين؟ القضية ليست «تنجيما وتبصيرا». هي قضية بوصلة ضاعت بسبب شعارات السيادة والاستقلال والقرار الحر و«سياسات شيراك» اذا اردت، وها هي البوصلة في طريقها الى الظهور ورسم الاتجاهات الصحيحة لكم ولغيركم «كي لا تنفلت الامور وتنقلب وبالا على الجميع».
نعتذر منك يا سيد كوشنير لان ما اعتقدناه «تبصيرا» في قضية الحشود كان بصيرة. يبقى ان تكشف لنا «بلورة» بصيرتكم مستقبل الاوضاع في حال تدخلت سورية عسكريا لمحاربة «التكفيريين» في مخيمين فلسطينيين في شمال لبنان، واعلن «حزب الله» في الوقت نفسه ان دخول المخيمات «خط احمر»؟ ام ان الخطوط الحمر كانت لأهداف محددة وسقطت كلها بعدما تقاربت بلورتكم مع... بوصلتهم؟
alirooz@hotmail.com