مثقفون بلا حدود / ما وراء «الأقصوصة» السورية (3 من 3)

1 يناير 1970 01:37 م
... ومع المجموعة الثالثة للقاص والأديب السوري الدكتور أحمد جاسم الحسين بعنوان «خبيصة» وتعني «فوضى». امتازت هذه المجموعة بالنقد المموسق؛ فالقاص السوري حينما ينتقد الأوضاع في هذه المجموعة، كأنه يعزف لك لحنا دافئا حزينا شجيا لا يخلو من السخرية بحرقة ومرارة بين الفينة والأخرى.

يقول في قصة «خمسون سنة ولم يتغير شيء» وكأنه يحاكي الرتابة والبيروقراطية التي عششت في معظم المؤسسات والإدارات الحكومية «يستيقظ مبكرا... يغسل وجهه... يحلق ذقنه... يتناول الفطور... يلبس... يخرج... يصل عمله... ينجز ما هو مطلوب منه... يعود... يتغدى... ينام... يستيقظ... يجلس على الشرفة... يشرب الشاي... يتأمل... يتثاءب... ينام يستيقظ في اليوم التالي يا... !» ص13.

ويسخر الكاتب السوري أحمد جاسم، من محبي البطولات الوهمية وفرد العضلات في كل شيء، نرى ذلك في قصة «البارحة أو بعد غد» يقول «لا تضحكي عليّ صحيح أن الضحك نافع للقلب... ولكن وقتها لا تهتمي بأمر القلب... لأنه سيكون قد انعطف تماما...! النية كانت أن أكتب قصة قصيرة جدا بأسلوب رسالة فيها بطل وبطلة - عذرا سنكون أبطالا ولو بالكلام - لا عليك... لا تكترثي... ألم أقرر منذ البداية الحديث عن شخصين لا أعرفهما... القرّاء أذكياء... وقبل أن تقودهم أذهانهم إلى تصور علاقة حبنا سأضللهم وأقول لهم إنني أتحث عن شهريار وابنة خالته شهرزاد... يا...» ص15.

أما في قصة «يمه يا يمااااه» يتطرق الدكتور/ أحمد، إلى آفة اجتماعية أخرى هدمت البيوت ودمرت الأسر ألا وهي «الإشاعة» يقول: «حسنا... أن تتركيني في المهد وتذهبي لتحلبي البقرة قبلتها منك... ولكن أن تصديقهم أن ابنك عاقر لأنه بلغ الثلاثين، ولم يتزوج فهذه لا أهضمها» ص18.

وبطريقة العالم في النفس البشرية، يصور لنا نرجسية هذه النفس ويكشف لنا «الأنا» ويرصد لنا المطبلين لهذه الشخصية تملقا ونفاقا وتزلفا، أو ما يطلق عليهم بالمتمصلحين أو المتنفعين. نرى ذلك في قصة «لن يذكره الناس أبدا» حيث يقول: «عن جدي عن جده قال سألت جدي: لماذا حرمت أعمام أبي من الميراث وورثته لجدي فقط؟ قال: هم حرموا أنفسهم، جمعتهم ذات يوم وقلت لهم: معكم شهر كامل لتفكروا في أفضل الطرق لـ (تخليدي)، ولما عادوا... قال الأول: عوّد الناس أن يركعوا لك سبعا وعشرين مرة في اليوم... ! والثاني قال: صُـنع تمثال لك في كل مكان من البلد أحسن طريقة لتخليدك... ! أما الثالث فقال: الأفضل أن ننشر صورك في كل مكان وتأمر من حولك بأن يكثروا من إقامة المهرجانات...! أما رابعهم «جدك» فقال: عذرا يا أبي سأكون صريحا معك - وإن كانت الصراحة في حضرة مثلك عواقبها وخيمة - إن من يخلف أمثال هؤلاء لن.. يا... !» ص37.

وختاما ننهي هذه المجموعة بقصة «ومن الحب» حيث يقول: «طبعوا لي صورا كثيرة... علقوها في مدخل البناء والبيت، كتبوا أسفلها ستبقى أبانا إلى الأبد! بالروح بالدم نفديك يا بابا! سامح الله أولادي المشاغبين على هذا الحب الذي كدت أدفع ثمنه غاليا...» ص40، وكأنه أراد أن يقول إن ما قام به الأبناء تجاه والدهم تعبيرا عن حبهم له هو من الممنوعات لدى بعض الأنظمة العربية؛ لأنها مقصورة فقط على الحاكم فهو الوحيد الذي يفترض أن يحظى بهذا التقديس.

ما أجمل هذه اللوحات الفنية القصصية الرائعة التي رسمها القاص والأديب السوري أحمد جاسم الحسين، بلغة بعيدة كل البعد عن البهرجة والتكلف، لقد استخدم لغة وسيطة، بألفاظ جزلة، وقريحة خصبة، وعاطفة صادقة، ومشاعر متدفقة، ووجدانيات دافئة حزينة مسؤولة، استطاع بها دخول البيوت والاستئناس بما جادت به هذه الأدوات الإنسانية، فقد لامس هموم المواطنين، وتفاعل مع معاناة كل عربي.

* كاتب وباحث لغوي كويتي

fahd61rashed@hotmail.com