أثينا من فوق غير أثينا من تحت... واليونانيون ملّوا تاريخاً لم يسمنهم من جوع
في سجن سقراط... لم نتغير... لن نتغير!
| أثينا - من علي الرز |
1 يناير 1970
08:38 ص
أثينا من فوق غير أثينا من تحت. فعلى التلال والهضاب المرتفعة معابد وآثارات تحكي قصة مختلفة تماماً عن قصص الناس في الشارع. هناك تاريخ أول في كل شيء وهنا حاضر متراجع في كل شيء.
«فوق»، الأساطير والاساطيل والحرب والنصر والهزيمة والفروسية والفلسفة والحكمة والعلم والملاذات الآمنة للناس. و«تحت»، الناس تلوذ بالتذمر والانسحاب من الحياة العامة مستشعرة غياب الأمن الاقتصادي، والحكومة تلوذ بالتجاهل بحجة ان الفساد اكبر من ان يواجه بعين بصيرة ويد قصيرة.
تسألهم عن اجدادهم وفلاسفتهم وحكمائهم فيردون بأنهم يريدون الانسحاب من الاتحاد الاوروبي، تسألهم عن جيش المتابعين لترجمة «المدينة الفاضلة» وإسقاطاتها التحديثية فيحدثونك عن جيش المهاجرين «وكيف تتاجر حكومتنا بهم وبنا»، تسألهم عن أرسطو وأفلاطون فيرسم لك احدهم خريطة لساحل أثينا الكبير ويطلب منك ان تعبره بسيارتك «لترى ان مشروعا كبيرا واحدا لم يبن هناك»، تسألهم عن سقراط فيضيقون ذرعا بـ«فلسفتك» ويكتبون لك عنوان سجنه بسرعة وكأنهم يريدون التخلص من ثقل جلستك بحثا عن جليس واقعي اكثر يمكن ان يستوعب ضيق صدرهم.
الى سجن المعلم سقراط في بلاكا، معالم لا تختلف عن معالم محدثيك، حياة على إيقاع استهلاكي في حارات بلا أبواب. هذا يغريك بدخول مطعمه، وذاك بالشراء من عنده، ووفود سياحية هابطة من معبد أكروبوليس شاهرة هواتفها لمجاراة هوس السيلفي او لاستكشاف الطريق... تصل الى ذاك المبنى الصغير الأشبه بغرف الطين في الواحات ورهبة التاريخ تصم أذنيك. هنا تجرع المعلم السم مفضلا الرحيل على استجداء العفو.
المعلم هو القصة كلها، أستاذ في كل شيء، الله عنده حقيقة والفلسفة محرك بحث للوصول اليها والعلم فيصل الحسم بين الشك واليقين، انما هذا كله يمكن ان يشكل مادة ادعاء كبرى خصوصا اذا كنت امام عامة تؤله النظام السياسي اكثر من اي شيء آخر، فالكفر بالنظام يصبح كفرا بما هو اعظم ويؤدي الى عقوبة الإعدام بينما العكس غير صحيح فالكفر بما هو اعظم والإيمان بالنظام السياسي يعفي من عقوبة الإعدام... وهذا تحديدا ما رفضه سقراط في محاكمته.
لا عبودية الا الى رب العالمين، هكذا قال سقراط في المحكمة ساخرا من كل القيم التي أرساها «وكلاء» الآلهة. ورب العالمين أوصاه بأن يستخدم عقله وبذلك فسلطان العقل تكليف إلهي، ورب العالمين أمره برفض مدعي النبوة والأوصياء والكهنة الذين يخدمون نظاما أنتجهم أو أنتجوه، وهذا الرفض سبب كافٍ لتلبيسه كل التهم من قبل أمة خرجت للتو من هزيمة مع اسبرطة، فهو لا وطني لان بعض تلامذته خانوا جيش أثينا رغم انه نفسه تطوع محاربا، وهو غير مؤمن لانه يكره التطرف وتغييب العقل، وهو يفسد الشبيبة لانه يكسر الأصنام في رؤوسها، وهو متآمر لانه يوجه نقدا لاذعا للسلطة... وهكذا دواليك الى ان سأله كبير القضاة عن العقوبة التي يريدها للتخفيف من حكم الإعدام فأجاب ساخرا ان العقوبة الاكبر تكمن ربما في ان يكون رئيسا لأرفع هيئة حكم في اثينا.
لم يتراجع عن رأيه، ولم يرض بأن يصبح الدين مسحوقا يغسل العقول ويحارب العلم كي تستقيم السيطرة للمتخلفين من رجال دين وسلطة. زاره كثر في سجنه طالبين منه مجرد التقدم باستئناف للحكم فرفض، توسل اليه حارسه ان يهرب فرفض... كان يعرف الحياة فأراد ان يعرف الموت ولا يدري احد بعدما اسقطوا جرعة نبات «الشوكران» في جوفه مدى معرفته بعالمه الجديد.
تخرج من سجن العالم سقراط الى عالم مسجون بالقيم الاستهلاكية لا الفلسفية او الاخلاقية. تسأل الجدران هل حقا رحل هذا الرجل في العام 399 قبل الميلاد؟ ثم تسأل الشارع: عندما برأت محكمة أثينا عام 2012 سقراط هل دانت في الوقت نفسه النهج الذي اعدمه؟ ام ان هذا النهج أصبح الأكثر قوة الآن؟
يتعالى صوت مدير المطعم قربك: هل تريد مسقعة بالباذنجان واللحمة نحن افضل من يقدمها في بلاكا؟ تُعيدك المسقعة الى واقع آسر وتنسى من كان في الأسر.