فاصلة / تدمير السرد (1)
| فهد توفيق الهندال* |
1 يناير 1970
12:11 م
ثمة استعمالات عدة للسرد، تختلف من باحث لآخر، فيرى جيرالد برنس أن السرد هو إعادة لإنتاج أحداث وحالات، حقيقية أو خيالـية، عن طريق سارد واحد، أو عدة ساردين. سـواء كان شفهيا أو كتابة. أو إشارة أو صورا متحركة، أو أي مجموعة منظمة. ليضم تحت مصطلح السرد، الروايات، والقصص القصيرة، والأساطير، و القصص الشعبية. إلى جانب السيرة الذاتية، والملاحم، والتاريخ والأغاني الشعبية القصصية Ballad، وغيرها.
واستخدم تودوروف مصطلح السرد بمعنى الحكاية. ويستعمل أيضا على كونه العمل التواصلي الذي به وفيه ينقل المرسل رسالة ذات مضمون قصصي إلى مرسل إليه، رديفا للكلام باعتباره وسيطا يحمل الرسالة المذكورة، ولكنه متخيلا.
أما جيرار جينيت، فيحدد السرد في علاقته بالـ (الحكي) في الفصل الخاص بـ «الصوت السردي»، عبر علاقات معينة، حيث ربطه بالمقام السردي أي المنطوق السردي أو النشاط السردي الذي يتولى مهمته سارد، يسرد حكاية ويصوغ الخطاب الناقل لها، وهو ما اسماه جينيت فعل السرد. وكأنه يميز بين فعل الكتابة الذي يكون عبر فاعله/ الكاتب، و فعل السرد الذي ينجزه السارد. و بالتالي، فإن جينيت هنا، يحدد السرد بكونه الناقل للخطاب الشفوي أو المكتوب الذي يتكفل بسرد حدث أو سلسلة أحداث. وفعل السرد يرتبط بمفهوم ثانٍ هو زمن السرد، حيث ان التحديد الزمني الرئيسي للمقام السردي هو موقعه النسبي من القصة.
على مستوى النقد العربي، يذكر سعيد يقطين رأيه في مفهوم السرد، بقوله:
«يتحدد الحكي (السرد) بالنسبة لي كتجلٍ خطابي، سواء كان هذا الخطاب يوظف اللغة أو غيرها. ويتشكل هذا التجلي الخطابي من توالي أحداث مترابطة، تحكمها علاقات متداخلة بين مختلف مكوناتها وعناصرها. وبما أن الحكي بهذا التحديد متعدد الوسائط التي عبرها يتجلى كخطاب أمام متلقيه، نفترض- على غرار ما ذهب إليه بارت- أنه يمكن أن يقدم بواسطة اللغة أو الحركة أو الصورة المنفـردة أو مجتمعة بحسب نوعية الخطاب الحكائي».
والسرد اليوم بات محصورا بالسرد القصصي والروائي، وقد لا يكون جميع ما نشر تحت مفهوم السرد، نابعا عن وعي فني متطور متجسد فعلي لمفاهيـم أدبية ونقدية جديدة تتصل بوظيفة السرد وماهيته، ولا تسعى للتعبير عن وعي جمالي يتخطى حدود الوعي السائد، ويتجاوزه إلى آفاق جديدة. لهذا فإن مهمة النقد حيال السرد لا يتمثل بالإرشاد والتعلـيم، بل في تجسيد رؤية فنية، أي تفسير فني للعالم ككل، وكشف الجديد من العلاقات الخفية داخل السرد بشكل خاص. وهو ما قرنه هايدجر سابقا بضرورة تليين التقاليد الجامدة ووضع نهاية لعملية الوجود مدخلا، فإن علينا أن ندمر المحتوى التقليدي للمعرفة القديمة. إلى أن نصل إلى تلك التجارب الأولى أو أدواتنا الأولى فيها لإبراز طبيعة الوجود.
والتدمير هنا لا يقصد به أمر سلبي أو عدمي يدعو للتخلص من تقاليد المعرفة، بل هو يحمل بعدا إيجابيا يتمثل في كونه يجتث التقاليد والحقائق الجامدة والميتة التي تحرم الكينونة من ادراك نفسها. ويحمي اللغة من التحجر والتكلس والتحول بدورها إلى مجرد تقاليد إضافية تجسر هوة الادراك في إنشائها الأول.
وشكل هذا المدخل ظهور نظريات لاحقة، منها نظرية التلقي وانتاجية المعنى، حيث يعد الناقد الألماني هانز روبرت ياوس المؤسس الحقيقي لها، من خلال محاضراته الشهيرة التي ألقاها بجامعة كونستانس تحت عنوان (التاريخ الأدبي باعتباره تحديا للنظرية الأدبية)، منتقدا فيها المناهج التي كانت سائدة آنذاك في تاريخ الأدب، مقدما بذلك رؤية جديدة تتشرب منها مرجعيات نقدية متعددة، وتستند إلى مجموعة من المفاهيم النظرية والاجرائية لتأويل واقع الظاهرة الأدبية تأويلا جديدا يأخذ بعين الاعتبار تفاعل القراء، وخصوصية سياقهم التاريخي الذي يؤثر في كيفيات استيعابهم وتمثلهم للأعمال الأدبية حاليا. ما يعني تدمير المعنى السابق لكل السياقات!
والعاقبة لمن يعقل ويتدبر.
* كاتب وناقد كويتي
bo_salem72@