فكرة لبكرة
نظرة في ديوان «بياض» للشاعر السعودي أحمد قران الزهراني
| د. فهد سالم الراشد* |
1 يناير 1970
10:44 ص
حينما جاءني ديوان الشاعر السعودي/أحمد قران الزهراني، بغلافه الأسود، وقد عنون له (بياض)، وقفت حائرا ومتأملا وسائلا: ترى لماذا اختار الشاعر الغلاف الأسود وفي الوقت نفسه أطلق على ديوانه «بياض»؟ لاشك بأنها سيميائيات تجذب الغواص الأدبي لكشف أسرارها، ومعرفة كنه ما تصبو إليه. بدءاً من الإهداء(إلى..التي تساورني ذات اليمين وذات الشمال) اقتبسها من سورة الكهف آية 18 «ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال»، وحينما يقلب الله عباده ذات اليمين وذات الشمال فإن ذلك يعني أن أمرهم موكل إلى الله تعالى فهو ألطف بعباده، وهو الذي يشملهم بعطفه ورعايته، ولعل ذات اليمين لرؤية طريق الحق والخير والبركة والظفر بالجنة، وذات الشمال الاطلاع على الطريق الخطأ وما يحفه من شرور، وهو المؤدي إلى جهنم، ولعل الشاعر السعودي عندما يقول في إهدائه هذا الديوان لأهل بيته، أراد معنى الاحتواء الشامل والكامل في الحياة الزوجية، وانه يستلهم من المرأة المؤازرة لزوجها. حياة هادئة تترك له العنان لأن يسبح في فضاء مفتوح مليء بجماليات اللغة وسحر البيان.
شاعرية مؤججة، وعاطفة ملتهبة، لقد مرغتنا الأيام، وطحنتنا الرّحَـا، اعتلج الهم في أفئدتنا، وحسرتنا على ما فرطنا تغتالنا يوميا كمدا وقهرا؛ كل ذلك ظهر في قصيدته (حداد) التي قال فيها(قفوا..ههنا نقرأ الفاتحةْ قفوا..فالذبيح العروبة..أمي..وهذا اليتيم.. أنا..أنتِ..نحن الذين استباحوا الحديث..ولاذوا إلى الصمت حيناً..وحيناً إلى اللغة الجارحةْ).
وكأني به يعيد حلبة الخلافات النحوية ويعيدنا إلى الظاهرة اللغوية المسمى بالفرزدق في بيته المشهور حينما أدخل (أل) التعريف على الفعل المضارع وهي من علامات الاسم حيث يقول: ما أنت بالحكم الترضى حكومته...ولا البليغ ولا ذي الرأي والجدل
والشاعر السعودي يقول(قفوا..نشجب الذل..والموت..والساسة اليستغلون من ضعفنا)وكأنه أراد أن يقول: الساسة الذين يستغلون من ضعفنا.
أمنيات شتى جسّدها الشاعر! فهل تتحقق؟ أصبحنا نحاكي الماضي ونتغنى به، ولكن هل الماضي يعود؟ خيبة الأمل واضحة لدى الشاعر ونظرة التشاؤم تسيطر عليه نرى ذلك في قصيدة «قيظ» حيث يقول(لقد عزني في الخطابِ..له مهجتان وسبعٌ وتسعوووون..لي واحدةْ..له مطلعُ الشمسِ من غربها..ولي لفحُها..والهجير..لِيَ النارُ في صورة خامدةْ)
مقتبسة من سورة ص آية 23 «إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب». ترى لمن يختصم الشاعر هنا؟ ولمن يبث همومه وشكواه؟ إن كان الشاعر ومنذ العصر الجاهلي هو لسان قومه، وهو المدافع عن حماهم، والمنافح عن رباهم بكلماته المصقولة كالسيف المهند، وجمله النافذة كالقناة المجوفة، فهل معنى هذا أن يختصم الشاعر السعودي من شاعرتيه، تلك الملكة التي وهبها الله له، هل يراها الشاعر السعودي نعمة أم نقمة؟ لعل شاعرنا أراد أن يقول إنني وغيري من شعراء أبناء جلدي العروبي المعنيون في الخطاب، المعنيون في الدفاع عن هذه الأمة، ولكن كيف لنا ذلك وبيننا وبينهم فجوة رقمية كبيرة من العسير اللحاق بها، وهناك بون شاسع يصعب تقصير مسافته، وهناك هوة عميقة استحالة ردمها والحال هذه. إنها الموضوعية التي يطرحها الشاعر السعودي، نعم: كيف لمثل هؤلاء الشعراء المبرّزين أن ينفخوا من روح الحياة في جثة هامدة لا حول لها ولا قوة إلا بالله العظيم من جسد لا يسعى إلى التطبب، ولا يريد الشفاء.
لقد استطاع الشاعر السعودي أن يحقق الأسلوب التعجيزي دونما استخدام أدواته وأغراضه وهي مهارة بلاغية في علم المعاني حسب ظني تحسب للشاعر السعودي.
والسؤال هنا كيف للشاعر السعودي الزهراني أن يوظف كل ذلك في شعره؟ إنه حمل كبير جدا، نشفق عليه منه، ولكن الشاعر السعودي يثبت بأنه قادر على توظيف ذلك، وبأن لديه أدواته الخاصة وملكاته كشاعر مقتدر يتمتع بحس مرهف وعاطفة جياشة ونظرة إلى نتيجة حتمية كان يصبو إليها، أتحسسها - ظنا - من خلال قراءتي لديوانه.
إن شاعرية الشاعر لا تقتصر على ما يتمتع به من إحساسات مرهفة، أو عاطفة جياشة متدفقة، أو قدر من التحنان، أو عوالج نفس تواقة إلى الإصلاح، بل الأكثر من ذلك إذا ما صقلت بثقافة عالية وواسعة كثقافة الشاعر السعودي أحمد قران الزهراني، وثقافة الشاعر السعودي لم تقتصر على المعلومات وتنوعها أو تعددها بل على شراهة في القراءة والمطالعة؛ فمن يرى ألفاظه الجميلة الرنانة، وانسياب جمله الأنيقة المستوفاة لقواعدها، يعلم جد العلم بأن الشاعر السعودي يعبُّ الكتب عبـًّا؛ فقد تبحر في جماليات اللغة العربية ذات التراكيب النادرة، وأخذ يغرف منها كما يغرف جرير من بحر اللغة.
في قصيدة «ارتكاسات» يقول(على ثرى أخي أسيرُ..ليس لي سواه كي أسيرَ فوقه..كأنه حمـّـالة الحطب) مقتبسة من سورة المسد، آية 4 «وامرأته حمّـالة الحطب»، يتجه ظني أن الشاعر السعودي لم يوفق في تركيب هذه الصورة داخل هذه اللوحة، ولربما – وإن كنت لا أرى ذلك – ولكن كما يقال «المعنى في قلب الشاعر»، ولا يعني هذا أن نحجم عن تأويل ما لم نستطع عليه حفرا. بداية لو أمعنا النظر في عنوان هذه القصيدة (ارتكاسات) فهي (انتكاسات) بالمعنى، أي خفق ولم يحقق ما يطمح له، ثم بدأ القصيدة بـ (على ثرى أخي أسير..تائها ومرغما ومقتصد..على ثرى أخي..صليت ركعتين..فيهما تلوت آية الكرسي جاهلا..وسورة المسد)، هذه اللوحة الفنية الأولى من هذه القصيدة وتأتي بعدها مباشرة اللوحة الفنية الثانية بيت القصيد، ومعنى هذا – في ظني – أن الشاعر السعودي أراد أن يحقق جرسا موسيقيا خارجيا في إيقاع القصيدة، فجاء ذلك على حساب الموسيقى الداخلية فاضطرب المعنى. أو لعل الشاعر السعودى تعمّد ذلك تلميحا منه إلى السياسات المبعثرة أو سياسات الترقيع التي استشرت في الوطن العربي؛ فتمزيق المعنى وإعادة رقعه ينعكس سلبا على اللوحة الفنية الشعرية، فتصبح لقمة سائغة لذئاب النقد الذين يقتاتون على ضبابية اللوحات.
إلى هنا نقف ونترك للقارئ الكريم التبحر في ديوان الشاعر السعودي / أحمد قران الزهراني، ليدرك مدى عمق شاعريته، وصدق عاطفته، ودفء وجدانياته.
* باحث لغوي وكاتب كويتي
fahd61rashed@hotmail.com