فكرة لبكرة
التواصل اللغوي بين دول الخليج العربية والعمالة الوافدة (3 من 3)
| د. فهد سالم الراشد * |
1 يناير 1970
10:56 ص
... بعدما انتهينا من عملية التأثر والاقتراض وهو الشق الأول من هذا البحث، نتناول الآن العكس وهو عملية التأثير، ونعني به تأثير اللغة العربية على اللغات الأخرى، وسوف أحصر حديثي على العمالة الوافدة لدول الخليج العربية، وعلى وجه الخصوص العمالة الوافدة على دولة الكويت.
بداية نحن أمام عمالة وافدة تجاهد وتكافح من أجل تأمين لقمة عيشها بوظائف دنيا من ( الخدمة في البيوت، والسائق، والمزارع، والعامل في الحفريات، والعتال للأغراض وخلافه )، وهذه الوظائف أو المهن الشريفة لا تغض ولا تحط من مكانة المرء، كذلك علينا أن ننظر إلى عملية الحاجة المتبادلة من كلا الطرفين، هو يقدم خدمة بدنية أو كتابية نحن بحاجة إليها ونحن نقدم له الأجر مقابل هذه الخدمة، فمن منا اليوم ونحن في وظائف عليا يرضى أن يخدم أو يعمل من دون مقابل أو عائد مادي؟! إن مجرد أن يتأخر راتب أي واحد منا نبدأ بالتذمر والتضجر والشكوى، لمجرد التأخير فقط لعدة أيام ولا أقول عدة أشهر، فما بالك بهذا العامل البسيط الذي جاء ليخدمنا ويسهر على راحتنا ويوفر لنا رغد العيش بهذه الخدمة، من حقه علينا أولا وقبل كل شيء احترامه واحترام آدميته وموروثه واحترام لغته. ولغته مكون أساسي لهويته، ثانيا المحافظة على حقوقه المعنوية والمادية.
لذا؛ لو عرضنا ما قالته إحدى الباحثات العربيات ناقدة بذلك المجتمع الخليجي حيث تقول«لقد صار لكل طفل خليجي تقريبا خادمة أجنبية... لينشأ على ثقافة ولغة ليس فيها أدنى انتماء عربي»، ثم عرضت لنا بعض الألفاظ المستخدمة من قبل الخدم وهي:«جيب موبايل مال أنا، ماما أنا معلوم انت، زين ماما، واحدة ساعة،هذه حرمة يخلي تلفون داخل سيارة».
هذا كلام خطير جدا؛ فالانتماء لا تزيله أو تمحوه خادمة بسيطة جاءت من أجل لقمة العيش، والله سبحانه وتعالى موزع الأرزاق وما دول الخليج العربية إلا سبب جعله الله لتوسعة الرقعة الثقافية للدين الإسلامي، ثم إن جيل الأربعينيات والخمسينيات والستينيات لم ينشأ على خادمة في البيت، ولعل جيل السبعينيات وما فوق هو من نشأ على خادمة في البيت ومن المبالغ به أن يكون لكل طفل خادمة، ولكن لو سلمنا جدلا أن لكل طفل خادمة كما ادعته الباحثة، هل الأجيال هذه تأثرت بالخدم وقل انتماؤها أو سمعنا منها لغة غير لهجتهم؟! أبدا فالكويتي معتز بلهجته والسعودي كذلك والبحريني كذلك والقطري أيضا والإماراتي على وجه الخصوص تميز في المحافظة على موروثه والعماني محافظ على لهجته ولم يتأثروا بلهجة الخادمة الهجينة أو تراكيبها المشوهة، لسبب بسيط جدا وهو الطفل الخليجي بعد ولادته بسنة ينتقل إلى الحضانة وفق معايير دولية ثم بعد أن يتم ثلاث سنوات ينتقل إلى رياض الأطفال وبعد أن يتم ست سنوات ينتقل إلى المرحلة الابتدائية من التعليم الأساس، وبفضل الله عز وجل هذه المراحل الثلاث تم خلجنتها على سبيل المثال في دولة الكويت تم تكويت المربين والعاملين والمعلمين في هذه المراحل الثلاث، وقس على ذلك بقية دول الخليج العربية. ما حافظ على الهوية وحقق المواطنة وعزز الانتماء.
أما في ما يتعلق بالاستعمالات التي ذكرتها الباحثة على لسان الخدم، فهذه الاستعمالات التي تأثرت بها العمالة الوافدة بالمجتمعات الخليجية، نحن نعدها مكسبا للغة العربية، لاحظ في هذه الجمل القصيرة كم كلمة أصلها عربي تعلمتها الخادمة الآسيوية فأصبحت مؤهلة لقراءة القرآن الكريم وفهم تعاليم الدين الإسلامي رويدا رويدا ( جيب، مال، أنا، ماما، معلوم، أنت، زين، واحدة، ساعة، هذه، حرمة، يخلي، داخل، سيارة ) وإن كانت تراكيب هجينة ومخالفة لنسق الجملة العربية، إلا أن هذا كان واردا أيضا في القبائل العربية، فبنو تميم يستخدمون الصيغة العامية ( مديون ) بدلا من ( مدين ) والقبائل الحجازية لديها تسهيل في الهمزة، وبنو أسد وبنو تميم يميلون للإمالة، وحتى في صفات الأصوات التي يعيبها بعض الباحثين على لسان العمالة الوافدة حينما يتحدثون باللغة العربية، كانت عند العرب أيضا، يقول الدكتور / إبراهيم أنيس «أما الصفات التي تتميز بها اللهجة فتكاد تنحصر في الأصوات وطبيعتها، وكيفية صدورها، فالذي يفرق بين لهجة وأخرى، هو بعض الاختلاف الصوتي في غالب الأحيان. فيروى لنا مثلا أن قبيلة تميم كانوا يقولون في«فزت»،«فزد»، كما كانوا ينطقون بالهمزة عينا. كما يروى أن«الأجلح»وهو الأصلع ينطق بها«الأجله» «عند بني سعد».
إذا كانت هذه السماحة والإجازة موجودة أصلا في القرآن الكريم دستورنا السماوي، ومصدر تشريعنا، فما بالنا باللهجات المحلية، لماذا هذا التعصب الذي يصل في نظري إلى ( الإرهاب اللغوي ).
مرت على دول الخليج العربية سنوات عجاف وضنك العيش وحياة صعبة للغاية، ذاقوا فيها الأمرين في تحصيل لقمة العيش، ولكنهم كانوا صبورين مكافحين حامدين الله عز وجل في السراء والضراء، جبلوا على المحبة والتعاون والإخاء وتقاسم لقمة العيش على شحها وندرتها، وحين أنعم الله عليهم بنعمة البترول شاركوا العالم بأسره في هذه النعمة – ولاسيما – الدول العربية والإسلامية، فقضية مثل قضية فلسطين والعرب، كانت تموت لولا فضل الله سبحانه وتعالى ثم مال الخليج الداعم لها بكل قوة وأخص بالذكر ما تقدمه دولة الكويت إلى يومنا هذا للقضية الفلسطينية وقضية الأمة العربية والإسلامية. أضف إلى ذلك هذه العمالة التي تقدر بالملايين من البشر وعلى رأسهم العمالة الآسيوية التي تدخل الإسلام يوميا بفضل الله أولا وآخرا ثم بفضل دول الخليج العربية، لما لاقته من حسن معاملة، فلا يغرنك بعض الأعمال الفردية التي تعد على أصابع اليد من المعاملة السيئة، مقابل هذه الملايين المتمسكة بدول الخليج العربية.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رحم الله عبدا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا، إذا اقتضى».
* باحث لغوي وكاتب كويتي
fahd61rashed@hotmail.com