| علـي الـرز |
قبل سنتين التقى مسؤول اميركي رفيع المستوى زعيما عربيا واسهب في تحليله لخطر البرنامج النووي الايراني على المنطقة والعالم. استمع الزعيم بكل هدوء حتى انتهى الاميركي من الكلام وسأله: «وهل ستدعم الولايات المتحدة قيام شرق اوسط خال من الاسلحة النووية؟». رد المسؤول الاميركي: «اذا كنتم تقصدون اسرائيل فهي دولة اثبتت انها عاقلة وانها لم تستخدم سلاحها النووي ضد اي من اعدائها على رغم انها خاضت حروبا كثيرة». عقب الزعيم العربي: «هذه وجهة نظركم انتم، ومع ذلك فانا لا اتكلم عن اسرائيل. اتكلم مثلا عن باكستان. هل انتم واثقون من ان اي تطور او توتر او اعمال عسكرية يمكن ان تبقيها دولة عاقلة لجهة استخدام النووي؟ خصوصا اذا تداخل العاملان القبلي بالعسكري في قضية وجود الدولة نفسها؟». عقب الاميركي على التعقيب: «لدينا حليف اساسي في باكستان هو الرئيس برويز مشرف الذي اثبت انه قادر على صيانة الاستقرار والمشاركة الدولية في الحرب على الارهاب رغم تعرضه لمحاولات اغتيال شخصية كثيرة». انهى الزعيم العربي اللقاء: «لكن الاستراتيجيات لا تبنى على افراد».
امس، وضع مشرف استقالته في تصرف الشعب الباكستاني، وهو الشعب الذي لم يستشره مشرف اساسا عند توليه السلطة التي وصل اليها عام 1999على ظهر دبابة معيدا الى العالم الثالث مع نهاية الالفية الثانية «البيان الرقم واحد» الذي كان اختفى لفترة. من انتخبهم الشعب غادروا بترتيبات سياسية الى الخارج في فترة كانت بلادهم الحجر الاساس في الحملة الدولية على الارهاب نظرا الى كونها «الحديقة الخلفية» لطالبان و«القاعدة» اثر الدور الكبير الذي لعبته في الحرب الباردة ضد السوفيات. ويومها ايضا، وكي لا ننسى، وصل عام 1977 الى الحكم جنرال هو محمد ضياء الحق على ظهر دبابة، ولم تسعف «الترتيبات السياسية» ذو الفقار علي بوتو المنتخب بغالبية ساحقة من الشعب في النجاة من حبل المشنقة عام 1979.
ضياء الحق كان صورة حقيقية للمرحلة المطلوبة. حكم بعصاتين: التيار الاسلامي والسلاح الاميركي، لكنه لم يضع استقالته في تصرف الشعب الباكستاني بل في تصرف قنبلة وضعت في صندوق مانغا في طائرته.
وبين 17 اغسطس 1988 موعد اقصاء ضياء الحق تفجيرا عن السلطة وبين 17 اغسطس 2008 موعد قرار مشرف اقصاء نفسه طوعا عن السلطة، عشرون عاما من تحضير باكستان كي تكون قاعدة لسياسة ما بعد الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الاشتراكي. كوفئت اسلام اباد ببعض «الديموقراطية» وبعض «النووي» وبعض «المساعدات»، ثم استدرجت لتلعب دور الاسفنجة في تجميع «عناصر الخطر» المقبل على السلم العالمي، اي الشبان الذين تخرجوا من مدارسها وقادوا دولة مجاورة اسمها افغانستان وانتشروا مع شباب «القاعدة» بين القبائل على الحدود مستفيدين من عقد تاريخي بين هذه القبائل والحكم ينص على عدم زحف اي «سلطة» على اخرى. ولما اكتشف القطب العالمي ان بعض الديموقراطية هناك غير كاف لوظيفة الحرب على هذه العناصر بعد تجميعها، طارت الديموقراطية والانتخابات وخيارات الشعب الباكستاني قبل اقل من شهرين على دخول العالم الالفية الثانية وعامين من غزوتي نيويورك وواشنطن، واقتحم المشهد اسم قائد الجيش برويز مشرف الذي سار على خطى اسلافه في العالم حين طوع مؤسسات الدولة لاسباغ شرعية تدريجية على انقلابه.
كان شريكا اساسيا للولايات المتحدة في الحرب على الارهاب، وكان الاجرأ بين اقرانه اذ كسر العقد التاريخي مع القبائل فارسل قواته العسكرية الى مناطقهم للدهم والتفتيش بحثا عن قياديي «القاعدة» وطالبان، وهو الامر الذي جعل كبار الضباط وكبار القضاة يتمردون على اوامره، وجعله عرضة لمحاولات اغتيال المخفي منها اكثر من المعلن... فالقبيلة شرف والتعهدات شرف.
اطلق مشرف يد الاستخبارات المركزية الاميركية في العمل بحرية حاصدة نجاحات ما كان يمكن ان تحصل لولا التعاون الاستثنائي الذي ابداه، ولكن مثلما للزعامات اعمار فللرئاسات اعمار ايضا... خصوصا في باكستان، وتحديدا عندما تتجدد السلطة الفعلية ممثلة بالمؤسسة العسكرية. كان لدى الجنرال شعور قوي بانه غادر السلطة عمليا عندما تنحى عن قيادة الجيش وسلمها الى الجنرال اشفق كاياني في 28 نوفمبر 2007، ومع ذلك انتظر «البونص» الاميركي والدولي عل ما قام به يشفع له بالبقاء استنادا الى «تفويض شعبي». في 27 ديسمبر 2007 يتم اغتيال بنازير بوتو في تجمع انتخابي الامر الذي ادى الى فوز احزاب المعارضة وعلى رأسها المنفي العائد نواز شريف بالانتخابات... كبر الشعور لدى الجنرال بقرب النهاية خصوصا مع شعوره القوي بأن المؤسسة العسكرية قد تكون متورطة في الاغتيال لتوجيه رسائل متعددة، اهمها اليه، بوجوب الاستراحة.
«لكن الاستراتيجيات لا تبنى على افراد». قالها الزعيم العربي للمسؤول الاميركي وهو يناقش اعجاب الاميركيين بالجنرال. بقي الاعجاب الاميركي بالجنرال، فهو لم يغادر السلطة بانقلاب او اغتيال، فيما غابت الحاجة اليه في المرحلة المقبلة التي ستكون فيها باكستان ركيزة للاستراتيجية الجديدة في المنطقة ومقدماتها النووية. الجيش أب الجنرالات واميركا أم الجيوش ومشرف ضرب من بيت ابيه. يبقى ان تترجم «أمه» اعجابها به بوقف فتح الملفات ضده كي يستريح في منزله ويستمتع بأكل المانغا... لا بانفجارها فيه.