الأربعاء الأسود

1 يناير 1970 06:34 م

الأربعاء 28/5/2008 يوم سيتذكره الكويتيون جيدا، سيتذكرونه على المدى الطويل إن لم يكن في القريب العاجل. سيتذكرونه رغم هدوئه وكمونه واختفائه واختبائه بين ثنايا الأيام. سيتذكرون أنه مفصل سياسي مهم بين التصحيح والانهيار بعدما وصل الاعتداء – نعم الاعتداء – على النظام الديموقراطي، وباسم الديموقراطية، إلى حدود غير مسبوقة.
قبل ان نشرح لا بأس من خلفية تحليلية سريعة وواقعية. فالديموقراطية في الكويت لم تكن لا مثالية ولا مبنية على اسس صلبة ولا ترتكز على آلية تسمح باكتمالها من خلال عمل منهجي منظم قائم على المؤسسة لا الافراد. ديموقراطيتنا كانت مرتبطة برؤية الافراد سواء كانوا حكاما او مسؤولين، فاذا كان الحاكم مؤمنا فعلا بالخيار الديموقراطي واتسعت آفاقه لتطوير النظام السياسي حققت الديموقراطية تقدما، واذا وجدت مجموعة من رجالات الكويت تجردت فعلا من مطامحها ومصالحها الشخصية من اجل ترسيخ التجربة الفريدة في المنطقة حققت الديموقراطية ايضا تقدما. وما عدا ذلك نكذب على انفسنا ان قلنا ان ديموقراطيتنا كانت بخير او انها اكتملت بتراكم الخبرات وتعاقب السلطات.
لماذا قبلنا بديموقراطية منقوصة؟ ببساطة لأنها افضل من اللاديموقراطية، تعايشنا مع عيوبها املا في ان يفرز التعاقب السياسي طبقات جديدة من داخل الاسرة ومن خارجها متقدمة مؤمنة بضرورة استكمال نواقص النظام السياسي. لكن الذي حصل هو ان عيوب ومساوئ النظام هي التي تعاقبت وتراكمت وصارت مثل كتلة اسمنتية تكبر سماكتها يوما بعد يوم. صارت مثل جدار عزل عنصري بين دعاة التغيير نحو الأفضل وارباب المصالح الخاصة... وربما كان يوم 28/5/2008 احد افضل تعبيرات هذا الجدار وتجلياته.
ببساطة وبكل وضوح، حدثان عبرا في «الاربعاء الأسود». الاول قيام حكومة روعي في اختيارها كل شيء... إلاّ المعايير الديموقراطية، والثاني اجتماع نيابي اشبه بـ «فرعية» روعي فيه كل شيء إلا... المعايير الديموقراطية والدستورية. اما القاسم المشترك بين الحدثين فهو الاهداف الخاصة والمصالح الخاصة.
كي تبقى الحكومة حكومة. كي تملأ الفراغ وتسيّر العاجل من الامور، كي تحظى برضا هذه القبيلة او ذاك التكتل السياسي او تلك الطائفة. كي تهادن هذا الفريق او تأمن شر ذاك التيار. كي تضمن اصوات الموالين في الكتل النيابية عند الاستجوابات. كي ترسل رسائل ضمنية وعلنية الى اصحاب الصوت العالي بأن يخفضوا الصراخ لأن «ابنهم» الوزير سيكون اسيرا للجهة التي «وظفته»، سواء كانت قبيلة او طائفة او تيارا سياسيا، فيرد لها الجميل بتعبئة الادارات بموظفين من لون معين وبتعبئة الإعلام بتصريحات ومواقف من لون معين... كي يحصل ذلك كله جاءت التشكيلة على الشكل الذي نراه فيما خلت المشاورات من مساطر ومعايير الأكفأ والأخبر والأقدر على العطاء.
عمار يا كويت، كان البحث عن وزير يتم كالتالي: مَنْ مِنْ القبيلة الفلانية (مع الاحترام الكامل للقبائل) يمكنه ان يدير هذه الحقيبة؟ مَنْ مِنْ الطائفة الفلانية يستطيع حمل هذه الوزارة الخدماتية الضخمة؟ مَنْ مِنْ التيار السياسي الفلاني يمكنه ان يتوزر ويمون على نواب تياره فلا يصعّدون ضد الحكومة؟ وتوالت الاجابات: هذا كفؤ لكنه لا يمون على نواب القبيلة. وهذا خبير وقادر لكنه لا يمون على نواب الطائفة. وهذا متمكن ومحترف لكنه لا يمون على نواب التيار. وكانت الغلبة للاسئلة لا للاجوبة وظهر هذا التشكيل الغريب العجيب الذي لا نعرف كيف يتحاور اعضاؤه بين بعضهم قبل أن نعرف كيف سيتحاورون مع مجلس الامة... ومن أجل مصلحة الكويتيين والتنمية والمستقبل.
عمار يا كويت، المصالح الضيقة في عبور الحكومة بسلام الايام والاسابيع المقبلة هي التي حتمت هذه الولادة مع الاحترام الكامل لوجهة نظر مهندسيها. مع وجوب الاشارة الى ملاحظة في غاية الاهمية وهي ان نهج التنازل امام مطالب النواب الخاصة اوصل الى زاوية حادة حين وصل سيف المطالب الى رأس الحكومة نفسه قبل ان يواجه هذا السيف بحزم من صاحب القرار الاول في الكويت.
وعلى جبهة النواب، ومع الاحترام الكامل والكبير لدورهم ولخيارات الناخبين، فإن ما حصل في ديوان الملا زادنا تحسرا على غياب رجالات الكويت الوطنيين حماة الدستور الفعليين. كان الدستور الضحية الاولى للاجتماع، وكانت الديموقراطية نعشها. سقطت الاعراف والمعايير بالقصف المركز والمخطط له من بعض النواب المخضرمين، وبالرصاص الطائش الذي أطلقه نواب جدد اظهروا ابتهاجا بالنزعات الانقلابية... بحكم حداثة خبرتهم.
 كان اجتماع النواب اشبه بدعوة غداء على شرف «فرعية». أراد بعضهم فيها خطف العملية الديموقراطية لأن رياحها لم تأت كما اشتهت سفنه، وصفق آخرون فيها كمن يصفق في جنازة، غير مستوعبين معنى ان تكسر «رموز» نيابية قناعات راسخة عندها من اجل هدف خاص، بل اكثر من ذلك، من اجل تصفية حسابات شخصية ولو ادى الامر الى خروجها هي من صورة المنافسة الحرة الشريفة.
ماذا يحصل؟ ديموقراطية توافقية توزع فيها الحصص مسبقا بين «حزب حاكم» وبين هيئات وتيارات موالية؟ اردنا تطوير نظام وصول الغالبية بالانتخابات الى المواقع القيادية في مجلس الامة حتى ينسحب الامر على الحكومة فتأتي ممثلة لغالبية منبثقة من الشعب وبالاختيار الحر، فاذا برموز برلمانية كانت ترفض إلى وقت قصير حضور مأدبة غداء أو عشاء كي لا يفهم من حضورها انها تتطرق لقضايا سياسية اساسية خارج قاعة عبد الله السالم، اذا بهذه الرموز تشارك في «فرعية» (مهما اعطوها من مسميات) تطرح حلولا تنتقص من المعايير الديموقراطية الموجودة بهدف تقليصها تحت مسميات «الاتفاق والتوافق».
عمار يا كويت، ما تفعله الحكومة من «تشكيلة توافقية» هو صدى انعكاس لما حاول ان يفعله نواب في المجلس تحت مسمى «الرئيس التوافقي». وفواتير الرئاستين اذا استمرت معايير المصالح الخاصة ستكون باهظة الثمن على اصحابها اولا وعلى الحياة السياسية الكويتية عموما. وها هي الكفاءات السياسية والوطنية تواجه تحدي الانهيار الفعلي بفعل تغييبها نتيجة هذه الممارسات. لم نعد نرى وجوها متألقة في مواقعها من ابناء الصفين الثاني والثالث في الاسرة، كما ندر الوجود النيابي الشاب الملتزم الكويت أيديولوجية وحيدة والمستقبل الحديث المتطور للكويتيين هدفا مركزيا.
كلمة أخيرة لمن يقرأ اتجاهات الريح. اعصار تسونامي ارتكزت قوته التدميرية على قدرته في الكمون والاختفاء والاختباء بين ثنايا الامواج. كان يمر من تحت السفن في أواسط المحيط من دون ان يشعر به الملاحون او ركاب السفن، فلما ضرب كان تدميره كارثيا.
الصعود الى اعلى يحمي من الاعصار والطوفان. والارتقاء بالنظام السياسي الى مستويات الديموقراطية الكاملة يقيها شر «أربعاء» كالذي مر على الكويت قبل يومين، ويحمي البلاد والعباد من «تسونامي سياسي» لن ينجو منه أحد... لا أحد... لا أحد.


جاسم بودي