سقطنا في الامتحان

1 يناير 1970 06:34 م

إن دلت التطورات الاخيرة في الكويت على شيء، فعلى اننا لا نعرف كيف نتحاور أو كيف نختلف. دلت على اننا شعب لا توسط بيننا فإما العشق المبالغ فيه وإما القصف العشوائي، وبين الالتحامين هناك اشياء اسمها نقاش وحوار واعتراض ورفض وانتقاد وادانة واستياء وتعبير وتنديد وتوضيح واعتذار واستدراك... وفوق هذه العناصر وغيرها هناك ثوابت تتعلق بجذور الوطن نفسه، الخروج عليها هو الازمة الحقيقية بل المأساة.
لا نعرف كيف نتحاور ولا كيف نختلف. وهذه النتيجة لا علاقة لها بالازمة التي حصلت بين الليبراليين والاسلاميين على منع الاختلاط ولا بأزمة تأبين عماد مغنية ولا بأي ازمة لاحقة. هي نتيجة طبيعية لتمترس كل فريق خلف جدران عازلة اسمها «الفصل الفكري العنصري»، وداخل دويلات فكرية من لون واحد وصنف واحد مهما حاول حكام هذه الدويلات اضفاء طابع التعايش الوهمي والتعدد الشكلي عليها.
ما وصلنا اليه اليوم هو النتيجة الطبيعية لكل السلوك السياسي والفكري والاجتماعي والديني الذي حكم مسيرتنا منذ سنوات كمجتمع اهلي لا كسلطة. كل فريق في غرفته او دويلته، وإن خرج الى الممر العام الجامع خرج بشروطه لا بشروط المسار المشترك، وهنا يحصل ما نراه ونسمعه من حدة في التعبير عن اي اشكال... ثم يعود كل فريق الى غرفته لا ليراجع ويتعظ ويتعلم ان التنازل لمصلحة التنوع والتعدد والعمل المشترك هو قمة التحضر، بل ليشحن مجددا وينعزل مجددا ويؤمن اكثر بان افكاره وآراءه هي الصحيحة وآراء غيره خطأ.
هل ضاق الهواء في صدور الكويتيين الى هذه الدرجة؟ هل وصلنا الى مرحلة من الجمود والتخلف حدا يمكن القول معه ان تاريخنا افضل من مستقبلنا؟ هل بدأنا نستورد بنجاح تجارب الآخرين المقيتة بعدما فشل الآخرون في تصديرها سابقا؟ هل صارت الفكرة الليبرالية بتنوعاتها اهم من الكويت؟ والفكرة الدينية بتنوعاتها اهم من الكويت؟ والفكرة المذهبية بتنوعاتها اهم من الكويت؟ والاهم من ذلك كله، هل استرخصنا الوطن الى الدرجة التي صار فيها اي خلاف يمكن ان يؤدي الى تجاوز الثوابت وضرب الاستقرار واحداث شرخ في الوحدة الوطنية؟ وهل نلوم الخارج على «شهيته» فيما الداخل «فيه الخير والبركة»؟
اسئلة كثيرة فرضتها الاحداث الاخيرة التي أتت نتيجة وليست سببا، وعلينا ان نتوقع غيرها ما دام جدار الفصل الفكري العنصري قائما. هناك من يخطئ، وجل من لا يخطئ، وهناك من يملك شجاعة الاستدراك والتوضيح والاعتذار، وهناك من يستمر في الخطأ، وهناك من يحتج ويستنكر ويندد... لكن ذلك كله يجب ان يتم في اطار القانون والحفاظ على ثوابت التوافق التي صاغت المجتمع الكويتي بكل اطيافه، فلا الخطأ مسموح به ان يتجاوز هذه الثوابت ويضرب بعرض الحائط مشاعر اسر اكتوت بدموع الحرقة على شهدائها ومشاعر مجتمع تعرض لنار الارهاب والأذية، ولا رد الفعل مسموح له ان يذهب الى اشعال نار الفرقة والمذهبية والعنصرية والمساس بطائفة كريمة من طوائف الكويت. فالموضوع من اساسه موضوع سياسي لا طائفي ولا مذهبي، وكل معالجة تخرج عن الاطار السياسي وتأخذ طرق التخوين والتشكيك واستحضار الايام السوداء الحارقة، هي معالجة ساقطة في فخ الخروج على الثوابت، تستقطب الفتنة تلو الاخرى، والانقسام تلو الانقسام، والانهيار تلو الانهيار.
القصة – على خطورتها – ليست فقط استفزازا من طرف لآخرين وعدم مراعاته لمشاعرهم واطلاقه التهم ضدهم والتشكيك في تاريخهم، وليست رد فعل عليه اجتمعت فيه كل رغبات تصفية الحسابات وفي كل الاتجاهات واطلق سهاما اصابت الوحدة الوطنية وشككت في الانتماء والأصول. ما حصل على فظاعته ليس كل القصة. القصة قصة جدار يزداد ارتفاعا ويحجب التلاقي بين الانسان والفرح وبين الانسان والمستقبل وبين الانسان والانسان وبين المذهب والمذهب وبين المنطقة والمنطقة. جدار يعتقد بناؤوه انهم كلما وضعوا حجرا فيه ازدادت خدمتهم لفكرتهم وعقيدتهم وخطهم الديني او السياسي. جدار لا يمت بصلة الى سور الكويت الذي كان الرمز للانصهار الانساني والتوحد الوطني.
واقسى ما في التجربة الاخيرة التي شهدناها، انكشاف حجم التكتلات المتعصبة المتوارية خلف فكر معين ومشروع معين وخط ديني وسياسي معين. يتساوى في ذلك الجميع، من ارتكب الخطأ ومن ذهب بعيدا في رد الفعل فنقل الخلاف من اطاره السياسي الى ابعاد مذهبية، ولا داعي لاعادة استحضار عبارات:  «من انت؟ وما هو تاريخك؟ واين كنت ايام الغزو؟» التي قيلت في التأبين، واجهتها ردود فعل مثل: «ما هي اصولك، وعد الى اصولك، واذهبوا الى مشهد بتذكرة ذهاب فقط»... كان الفعل ورد الفعل تأبينا مرفوضا لقيم مشتركة علينا حمايتها. كان حفلة زار انقسامية وامتحان لقدرتنا على مواجهة الطوارئ.
الانغلاق والتطرف والجمود هي الاسباب الحقيقية لما حصل بالامس وسيحصل لاحقا. سنزر الوازرة تلو الاخرى ما لم ينهدم جدار التقوقع الكامن في عقول وصدور الكثيرين منا. سنرد على الخطأ بخطأ وربما بخطيئة ما لم نفتح النوافذ لهواء نقي يحمل نسمات التنوع والتعدد والتعايش الحر الخلاق مع الآخر. سنهدم ثوابت الكويت بأيدينا مشرعين الباب لكل من هب ودب للتدخل ما لم نعتصم جميعا بهذه الثوابت ونلتف حول الدستور ونلتزم القانون سقفنا...
والى ان نعرف كيف نختلف وكيف نتحاور... علينا ألا ننسى قول الشاعر:
ارى خلل الرماد وميض نار
ويوشك ان يكون لها ضرام
فان النار بالعودين تذكى
وان الحرب اولها كلام



جاسم بودي