أبو عبدو ... بندقية ووصية
| علي الرز |
1 يناير 1970
11:04 م
مقال بعنوان «وصية مبكرة» كتبته في مايو 2005 بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري وعودة رستم غزالة إلى بلدته في سورية مع بندقية هدية من الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله. أعيد نشره مع اختصار بسيط:
هأنذا أقابل هذه البندقية الهدية بعدما كنتُ أقابل حملة البنادق، ومع احترامي الكبير لرمزيتها، إلا أنني لا أريد أن أمضي ما بقي من عمري أنظر إليها متماهياً مع لحظات الفخر.
هأنذا والبندقية الهدية، والضيوف الذين ألتقيهم هنا غير الضيوف هناك... هناك، في عنجر، كانت هداياهم تسبقهم وتلحقها مطالب ألبّيها من «كيسهم». هنا، في دارتي العامرة، مَن يزورني تسبقه مطالبه وتلحقها أمنيات بأن أهديه من «كيسي».
هأنذا والبندقية الهدية، اختلف الوضع كثيراً ولم يعد لي «خلق» على الناس، زواري اليوم يطلبون مني أن أستخدم نفوذي لتقليص فترة تجنيد أبنائهم أو نقل مكان خدمتهم او جلب رخصة للبناء فوق السطح أو توسيع قسطل المياه او إبعاد «شبّيح» في هذه الإدارة أو تلك عن معاملاتهم... هناك، في الفيلا، لا يمرّ يوم من دون زيارة مليونير لي أو مشروع مليونير أو رئيس وزراء أو وزير أو نائب أو رجل أعمال أو إعلامي أو رئيس حزب، طلباتهم ظريفة خفيفة و«من دهنو سقيللو»، وتلبيتها لا تحتاج سوى إلى رفع سماعة الهاتف وأحياناً إلى زيارة كي أحافظ على اللياقات مع بعض المراجع.
هناك، وبفضل الطبقة السياسية «المحترمة»، تجاوزتُ بسرعة عقدة مَن سكن عنجر قبلي (غازي كنعان)، تعاملوا معي في البداية على أنني ملحق وغير أساسي، ولم «يقصّر» سلفي في الحفر والتفخيخ لي، لكنهم في النهاية رضخوا بعدما تم تبليغهم بأن عبور الطريق الدولي يمرّ حصرياً عبري... و«ابتدا المشوار»، من رتبة إلى أخرى، ومن ضيف إلى حاكم، ومن عسكري إلى دكتور، كنتُ الرتبة الأعلى بلا منازع.
صار الزلزال هناك، اغتيل الرئيس وكل ما اعتقدنا أننا بنيناه على مرّ عقود انهار بلحظة، وكل حساباتنا بالناس والأصدقاء والحلفاء كانت خطأ بخطأ. سألني الكبار هنا: ماذا سيفعل الشباب هناك إذا واجهوا لجنة التحقيق الدولية؟ أجبتهم أنني أبلغتُ كل واحد رسالة قصيرة مفادها: «بقدر ما تعطون اللجنة بقدر ما تأخذ منكم»، بمعنى آخر خير الكلام ما قلّ ودلّ من دون عقد نقص أو تحسُّس الرأس أو تلمُّس الرقبة، وحلفاؤنا اقتنعوا بنصيحتي خصوصاً بعد العرض الذي قدمتُه لهم عن المخطط الدولي الذي يستهدف هنا من... هناك.
لكن الكبار هنا غير مقتنعين بالالتزام هناك. وزاد «الطين بلة» تَرافُق الزلزال مع بثّ ذلك التلفزيون وثائق عن دوري في ذلك البنك (المدينة)، الأمر الذي سيشجّع آخرين على الحديث عن أدوار أخرى في مؤسسات أخرى، وسيجعلني أنتظر مَن يطرق بابي هنا ويقول لي: «في موضوع التحقيق الدولي فهمنا نظريتك، بقدر ما تعطون بقدر ما تأخذ اللجنة، أما في المواضيع الأخرى المتعلقة بك وبينها البنك، فالجماعة مستاؤون لأن نظريتك صارت»بقدر ما تأخذ بقدر ما تأخذ»، ولأن قضية البنك تحديداً وتدخّلك في القضاء وتلفيق التهم للناس بالعمالة للعدو لمجرد محاولتهم فضح أفلامك أضرّت كثيراً بالصورة هنا وشكلت وثيقة تاريخية على تدخلنا الخاطئ المبنيّ على مصالح خاصة...».
تفضّلوا، أصبحتُ أنا الآن هنا «وثيقة» لكل الأخطاء هناك، والآخرون أنقياء أتقياء شرفاء. ضاع كل ما فعلته للقضية الكبرى وللعلاقات المشتركة بحسابيْن وشهادتيْن علميتيْن... و«خير يا طير»، فالحسابات كانت تتسلل من دولة إلى أخرى إلى ثالثة وتخرج في وضح النهار، والشهادات تعطى في الليل، والجنسيات وجوازات السفر تُمنح صباحاً وتستعاد مساءً، ومعسكرات التدريب للتصدير شرقاً وغرباً وجنوباً (وشمالاً في السابق قبل أن تحمر عين بني عثمان) على عينك يا تاجر، وأستطيع أن أكمل ما حجمه مجلدات، لكنني يجب أن أحترم موقعي العسكري ولا أتحدث كثيراً في السياسة.
هم سيركزون معي الآن على الاستخدام السيئ للمنصب ولن يأتوا على ذكر الزلزال، وأنا أيضاً لا أدري «شو ضرب على قلبي» وصرتُ أُكثِر من الكلام عن التضحية والفداء والروح والدم وعدم البخل بالغالي والنفيس من أجل الوطن.
هأنذا أقابل هذه البندقية الهدية، يا سيدي الله لا يغير علينا وعسى ألا يطرق بابي مَن يوبّخني بطريقته الخاصة على كل شيء ويذكّرني بكلامي الدائم عن التضحية والفداء والربح الكبير الذي سيحظى به الوطن في حال تقلص حجم «الوثائق» التي تدينه (أقصد الوطن)، ويذكّرني بأن ما أحتاج إلى تحقيقه في عشرة أعمار هنا حققته في عشر سنوات هناك، ويذكّرني بان تحقيقاً جدياً في ملفاتي هنا سيسيء إلى تاريخي واسمي وعائلتي والعقوبة قد تتجاوز المؤبد، ويذكّرني بتجربة مماثلة ترجم فيها رئيس وزراء سابق كلامه (وهو للصدفة من منطقتي نفسها) عن التضحية والفداء إلى عمل «محمود» بينما التحديات آنذاك لم تكن لتُقارن نهائياً بالتحديات الحالية.
عمل «محمود»، عمل «محمود»، عمل «محمود»... ماذا عمل محمود؟ أو بالأحرى ماذا عملوا لمحمود؟ أف، لن أشغل نفسي بأسئلة جديدة، لكنني أستطيع التأكيد أن أكره ما أكرهه اليوم هو أن يدخل مَن يوبّخني ويدفعني إلى أن «أفدي» وطني بعمل محمود... وبهذه البندقية الهدية.