حينما يفتح الوداع باباً آخر للقاء
رثاء / أصبح الصبح... ومحمد الفيتوري لا يزال في ضمائرنا باقياً
| مدحت علام |
1 يناير 1970
06:37 م
ليس مجرد كلام يتدحرج سريعا على صفحات بيضاء، ولا رؤية تتوهج في لحظة وتأفل في لحظة أخرى، إنه الأبد الذي يتلمسه شاعرنا الجميل محمد الفيتوري، عبر عالمه الأخير، ذلك الأبد الذي جعل من قصائده عناقيد تتدلى لكل محتاج وبسيط.
وإننا نقول... أصبح الصبح، وقصيدتك لا تزال طازجة تتأملنا، ونحن ننسج من خيوط أحزاننا في ما يشبه السجن والسجان، ونضع على أعتابنا استعمارا، من نوع آخر لم يكن متوافقا مع ما كنت تبشر بالتخلص من اغلاله، إنه احتلال الظلم والاستبداد، على مساحة شاسعة من مشاعرنا.
أصبح الصبح... يا شاعرنا الجميل محمد الفيتوري، ولا تزال الذاكرة- منذ مرور ردح من الزمن- تحتفظ بقصائدك... والتي كنت فيها شهما، ومثالا لكل حالم بالحب والسلامة والحرية.
غير ان غربتك المتداخلة، ونظراتك الطيبة وبشرتك المنسجمة مع ملامحك البسيطة... كانت تدفعني إلى التفكير في أحلامك التي تبدو مستحيلة، وتجعلي استحضر تدفق مشاعرك، التي كنت اشفق عليها من زمن لا يتهاون مع الطيبين، ولا يتساهل مع كل صاحب قلب رحيم.
أصبح السجن... ولا يزال الحزن يكحل المآقي... ليس من آلام الاستعمار، أو ظلم الغرباء، إنه ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، ظلم لا يتوقف عند حدود... إنه يستنزف الدماء والأجساد والأحلام، ويقتل البراءة والطفولة، ويسجن الأمان ويعتقل الطموح:
أصبح الصبح
ولا السجن ولا السجان بقية
واذا الفجر جناحان يرفان عليك
واذا الحزن الذي كحل تلك المآقي
والذي شد وثاقا لوثاق
والذي بعثرنا في كل وادي
فرحة نابعة من كل قلب يابلادي
وحينما ضاق بك الوطن... الذي ولدت فيه (السودان) حملك والدك الصوفي الشازلي مفتاح الفيتوري، إلى الاسكندرية في مصر، ليربيك على التصوف والحب، فنشأت فيك الروح الإنسانية الخلاقة، ثم أصبحت يافعا وشاعرا ليس من أجل أفريقيا فحسب، ولكن لكل إنسان يبحث عن السلام، وقتها لم يرق تمردك على الظلم السلطة المستبدة في بلدك، فسارع جعفر النميري في سحب جنسيتك السودانية، وكأنه منحك إيها من فضله، وليس من فضل جذورك الممتدة إلى آلاف السنين، فاستقر بك المطاف في المغرب وطن زوجتك، بينما لم يتوقف هذا الاغتراب عند بقعة محددة على الأرض، فسافرت ومكثت أزمنة في بلدان متفرقة.
لذا فإننا لو ارجعنا انتماءك إلى بلد محدد... السودان أو مصر أو ليبيا أو حتى المغرب... فإننا في هذه الحال خائنون لإنسانيتك، لأنك تنتمي لكل الأرض ولكل البشر.
يا أخي في الشرق، في كل سكن
يا أخي في الأرض، في كل وطن
أنا أدعوك... فهل تعرفني؟
يا أخا أعرفه... رغم المحن
إنني مزقت أكفان الدجى
إنني هدمت جدران الوهن
لم أعد مقبرة تحكي البلى
لم أعد ساقية تبكي الدمن
لم أعد عبد قيودي
لم أعد عبد ماض هرم عبد وثن
أنا حي خالد رغم الردى
أنا حر رغم قضبان الزمن
فاستمع لي... استمع لي
فالقصيدة عند الفيتوري... كانت حقيقته في الحياة، وعالمه الذي ينشد في ربوعه الأمل والإنسانية، واللقاء المرتقب مع السلام، وهي الكائن الحي الجميل، الذي شكل فيه كل ألوان السماحة والطيبة والطمأنينة، رغم ما كان يعتمل فيها من ألم مفرط في الوجع:
رُبَّمَا لمْ تَزَلْ تلكم الأرض
تسكن صورتها الفلكية
لكن شيئاً على سطحها قدْ تكسَّر
رُبَّمَا ظل بستانُ صيفك
أبْيضَ في العواصف
لكنَّ بْرقَ العواصف
خلف سياجكَ أحْمر
رُبَّمَا كانَ طقسُك، ناراً مُجوسِيَّةً
في شتاءِ النعاس الذي لا يُفَسَّرْ
وفي ما كانت القصائد تترى تباعا، لم يكن في خيال الشاعر مساحة- ولو ضئيلة من كره، بقدر ما اتسمت نفسه بالتواضع الجم، والانتصار لروح الإنسان ضد الهمجية والاستبداد، فدافع عن كل بسطاء العالم وكل المظلومين، وفتنته شدة بأس أطفال فلسطين في دفاعهم عن وطنهم التاريخي والأبدي (فلسطين)، وحينما قلت الحيلة، ونفدت القوة، اتجهت أياديهم الصغيرة إلى الحجارة، كي يلقوها بقوة في وجه العدوان الصهيوني المستبد:
ليس طفلاً يتلهى عابثاً
في لعبة الكون المحطّم
أنت في سنبلة النار وفي البرق الملثم
كان مقدوراً لأزهارك وجه الأعمدة
ولأغصانك سقف الأمم المتحدة
ولأحجارك بهو الأوجه المرتعدة
ويصعب علينا... بعد هذا الوداع المهيب، ونحن في حضرة الغياب، أن نتوقف عن بث مشاعرنا الشيقة في بساتين شاعر عاش جميلا ومات جميلا، أن نتوقف ولو بضعة ثوانٍ عن تأكيد هذا الحضور الذي أوجده محمد الفيتوري في أنفاس ذلك الحضور الذي استلهمنا منه أحلامنا، واقتطفنا من سيرته، وجودنا، وسيرنا الإنسانية الخلاقة:
في حضرة من أهوى عبثت بي الأشواق
حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق
وزحمت براياتي وطبولي الآفاق
عشقي يفني عشقي وفنائي استغراق
مملوكك لكني سلطان العشاق
وهل يجدر بنا سوى أن نتنسم الحلم والحرية في متون شاعر اتسمت حياته بالبساطة والرقة، والقرب الشديد من الإنسان- كائن كان- لا يتميز فيه عن أخيه الآخر بلون أو انتماء أو جنسية أو دين:
يا أخي في كل أرض عريت من ضياها
وتغطت بدماها
يا اخى في كل ارض وجمت شفتاها
واكفهرت مقلتاها
قم تحرر من توابيت الأسى
لست اعجوبتها
أو مومياها انطلق
فوق ضحاها ومساها
وداعا... يا شاعر النقاء... والحب، يا شاعرا ولدت أحلامه فينا، ونمت على دفاتره مشاعرنا... قصائد مفتونة بالضوء، ومنجذبة بشدة إلى الصبح، ومبهورة، بألوان الحياة.
وداعا يا شاعر... أفريقيا والعروبة والإنسانية، وداعا يا شاعر الكون وحامي حمى القصيدة بكلماتك التي توقظ الضمائر، ولا تجعلها تنام ثانية، تتنامى فوق شواطئ الحلم، مزهوة بالنور، وبتطلعات البسطاء، وتأملات المنتسبين إلى الإنسانية الحقيقية.