تأبين / غونتر غلاس... شاعر ابتهج بالقصيدة وتصدّى للظلم بالحكمة والكلمة المخلصة
| مدحت علام |
1 يناير 1970
06:07 م
الحياة... بالنسبة للشاعر الألماني الراحل غونتر غلاس، هي الريشة التي رسمت ملامحه- أو فلنقل نحتتها- بعفوية مبدع عاش أكبر قدر من حياته خلف نظارة سميكة وبشارب عريض، ونظرات تتسم بالطيبة، وبغليون يكاد لا يفارق يده أو شفتيه، وبقامة مفرودة... تستقيم وفق منظومة إنسانية متوهجة بالحلم.
إنه الروائي المثير للجدل... الذي دفعته الظروف للالتحاق بصفوف القوات النازية في سن السابعة عشرة، ورغم هذا الميول المبكرة للحياة العسكرية، إلا أن مستقبله توازى مع الإبداع الإنساني الخلاق، كتابة ورسما، كما توازى أيضا مع الاندفاع في التعاطي مع السياسة، من منظور مبدع يريد تحطيم قواعد صارمة يتحكم في وضعها وترتيبها وتعديلها وتطبيقها، أولئك الذين يمتلكون القوة، في ما تظل الشعوب الفقيرة- المغلوبة على أمرها- راقدة تحت وطأة عدوانية وتسلط وإجحاف هذه القوانين الكونية المروعة.
وهذا الاندفاع الإنساني في التعاطي مع السياسة، جعله يركب الأهوال ويخوض حربا شرسة مع الدولة الصهيونية، مدافعا عن الحق والحقيقة أيضا، خصوصا في ما يتعلق بالشعب الفلسطيني... الطرف الذي يتحمل ظلما فادحا يقوم به كيان لا يرى إلا نفسه، ولا يحس إلا بمعاناته، في ما يتجاهل بشكل تام معاناة ورغبات ومطالب الآخرين.
وفي هذا السياق الإنساني الخلاق جاءت قصيدته النثرية «ما ينبغي أن يقال»، والتي يتحدث فيها صراحة عن هذا الكيان الذي يكذب، غير أنه كذب مصدّق:
لماذا أمنع نفسي
من تسمية ذلك البلد الآخر
الذى يمتلك ومنذ سنوات ـ رغم السرية المفروضة- قدرات نووية متنامية،
لكن خارج نطاق السيطرة،
لأنه لا توجد إمكانية لإجراء مراقبة
السكوت العام عن هذا الواقع.
الذى أنطوى تحته صمتي،
أحسه الآن كذبة تثقلني وإلزاماً،
في الأفق تلوح عقوبة لمن يتجاهلهما؛
الحكم المألوف: معاداة السامية
هكذا جاءت رؤية الشاعر الذي خاض تجارب لا يمكن الاستهانة بها، كونها تجارب صعبة، وتحددت على أساسها روحه الإنسانية، التي اختارت التسامح والسلام، ومواجهة الظلم بالكلمة الرافضة، والتحرك الذي لا يتوقف أمام أخدود أو حتى أمام جبل شامخ.
فالتجارب عديدة... تنامت في نفسه كي تتشكل على إثرها شخصية خرجت من الأسر الأميركي كي تدخل في دوامة البحث عن طريقة يمكن من خلالها ترميم بلده ألمانيا الذي خرج من الحرب العالمية الثانية، وقد أدت هزيمته إلى خرابه، وبعثرة أحلامه، وتشريد أحلامه.
وحينما استقر البلد وتعافى... ابتهجت الرؤى... وتفاعلت التطلعات في ضميره... لتكون النتيجة الحصول على جائزة نوبل في الآداب... ثم تبلورت الأحلام... في مساحة من التسامح والحب والسلام.
ومن ثم جاءت الرؤية الروائية متناسقة ومتفاعل تماما مع الحب الإنساني، والانتصار للمهمشين، كي تتسامى الكلمة مع الفكرة في رواية «الطبل والصفيح» والتي تتحدث عن طفل معاق يرى بعينيه جنودا وهم يقتلون بعضهم البعض، اثناء ممارسته لهواية القرع على الطبلة في مبنى قديم «خرابة»، مما جعل إدراكه يتوقف عند مرحلة محددة لا يتخطاها رغم تقدمه في العمر، وهذا العمل الروائي الذي ترجم إلى لغات عدة، يعكس- في ما يعكس- قدرة غلاس على الانتباه إلى التفاصيل، بأكبر قد من الصدق.
ولم يتردد غلاس في ان تكون اعترافاته شفافة حينما أفصح عن انضمامه في مرحلة عمرية مبكرة إلى الوحدات الخاصة النازية، رغم معاداته- في ما بعد- لكل الأنظمة القمعية، ووقوفه ومساندته... لكل الذين عانوا من القمع والظلم والتشرد، في أصبح مواطنا ألمانيا وفيا لمبادئه، وحبه لبلده إلى الدرجة التي دفعته إلى اتهام المستشارة ميركل بـ«الجبن السياسي» في تعاملها مع قضية تجسس وكالة الأمن القومي الأميركية على ألمانيا.
غنه الشاعر المندد بالخوف والجبن، المدافع عن الجرأة والجراءة في خوض الصعاب من أجل إرساء قواعد التسامح، وإعلاء الأمل في أن يعيش العالم آمنا مطمئنا، في سلام:
لا يأخذنك الخوف،
فمن الخوف تفوح رائحة الخوف.
وكلّ مَن تفوح منه رائحة الخوف
سوف يكون عرضة لِشَمّ
الأبطال الذين تفوح منهم رائحة الأبطال.
إنه الشاعر الألماني غونتر غلاس... الذي اتسمت حياته بالتوهج الإنساني، والقدرة على تأكيد رؤيته بالكلمة المنتقاة، والحكمة الخالصة، والمشقة في سبيل أن تظل روحه شفافة، محلقة في فضاءات لا تتقبل إلا أن تكون مزدانة بالنقاء والحضور الإنساني الخلاق.