قراءة / الرواية صدرت عن «مدارات» للنشر

دلع المفتي في «رائحة التانغو»... تكشف الواقع برؤى تتحرك في أكثر من اتجاه

1 يناير 1970 05:32 م
تتبدى الرؤى الحسية لدى الزميلة الكاتبة دلع المفتي... مستوحاة في الأساس من مضامين تتعلق بالإنسان في حالاته المختلفة، كما أن لغتها الأدبية دائما ما تأتي قريبة من الواقع في سياق فني يتحرك في أكثر من اتجاه.

وعلى هذا الأساس صدرت روايتها الجديدة «رائحة التانغو»- عن دار مدارات للنشر- تلك التي اتسمت بتجاذبات عديدة وأحداث مفعمة بالحركة، ومعالجات شديدة الموضوعية، لقضايا تتعلق بالمرأة وحريتها وإنسانيتها في مواجهة الاستبداد والتسلط، الذي يأتي من قبل، وتناول هادئ لقضايا تتعلق بالمنطقة العربية، خصوصا في سورية.

وحينما نقرأ رواية المفتي سنقف مشدودين أمام العنوان«رائحة التانغو»... والسبب أن «التانغو» عبارة عن رقصة تتبع التراث الأرجنتيني، تستخدم كتعبير عن الفرح في الحفلات، كما أنها تستخدم في بعض الألعاب مثل الجمباز، كما أنها كثيرة الاستخدام في رقصات الباليه، وفيها يقف الرجل في مواجهة المرأة ممسكا بيده اليمنى يدها اليسرى في حين تطوق يده اليسرى جسدها، وبالتالي فإننا نتحدث عن حركة وليست رائحة، ومن ثم فإن خيال المؤلفة ظهر في هذه الخصوصية، وهو خيال سيكتشف المتلقي أنه تيمة واضحة في أحداث الرواية التي اعتمدت على حاسة الشم في الكثير من المواقف المرصودة وبالتالي فإن حاسة الشم هي المحرك الأساسي لبطلة الرواية «زهرة»، فهي تكره رائحة زوجها، وتعشق رائحة والدتها، وأنواعا من الزهور وغيرها، وبالتالي فقد خدم العنوان تواتر الأحداث، رغم أن «العنوان»، اقتنصته المؤلفة من فقرة صغيرة في متن الرواية، والتي تتحدث عن لقاء «زهرة» مع «بيل» ذلك الرجل البريطاني الذي يعمل ويعيش في أميركا، وأمه من أصول ارجنتينية، منبع هذه الرقصة.

والحبكة التي اعتمدت عليها المفتي في سرد روايتها تعتمد في الأساس على جدلية الظلم الذي يقع على المرأة، جراء ما تتعرض له من قمع وسيطرة من قبل الرجل سواء كان الأب الذي يظهر في الرواية متدينا ويريد لابنته أن تكون ملتزمة مثله من دون النظر إلى رأيها، ثم الزوج الذي يختلف اختلافا جذريا عن الأب فهو متأثر بالحياة الغربية، غير أنه غير مبال بها، ولا يسعى أبدا إلى إدخالها في محيط حياته، رغم أنه ترك لها حرية فعل أي شيء طالما أنه لا يعلم به، ثم ظلم المجتمع الذي ترصده متجسدا في مشاهد يومية متكررة ترى فيها المرأة مظلومة ومقموعة، خصوصا قصة «حسيبة»: تلك المرأة الصعيدية، التي تعمل في منزلها، وخوفها من زوجها عطية الذي يهددها بالويل والثبور إن أنجبت له ابنا خامسا، وبالتالي وضع هذا الرجل كل أعباء المسؤولية على الزوجة ولم يكلف نفسه فسحة التفكير في أنه أيضا يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية.

وتتواصل الأحداث بعد زواج زهرة من عادل... «الذي يكره كل شيء يتعلق بالعرب، نتيجة لأسباب تتعلق بكونه من أم أجنبية تعرفت على والده ثم جاء إلى الحياة كنتيجة لهذه العلاقة، ومن ثم أحضره والده إلى الكويت، ضاربا عرض الحائط بأمه ورغبتها في أن يكون والدها إلى جانبها.»

وتواجه زهرة- على لسان الراوي- حياة قاسية مع زوج لا تعرف الكثير من أسرار حياته حتى عمله الذي تفوح منه رائحة الفساد ورؤيته للكثير من الأحداث التي تختلف بشكل مثير للدهشة عن رؤيتها، وبلادته في التعامل معها، ما فتح أمامها المجال للبحث عن الأمان في أشياء أخرى، وبالتالي حاولت أن تشغل وقت فراغها في افتتاح «غاليري»، والانشغال بالعمل فيه، وهو المكان الذي فتح أمامها رؤى أخرى مختلفة، ومجالات عديدة يمكن من خلالها تعويض ما تحس به من فراغ وملل.

والرواية تتعرض للكثير من الرؤى السياسية العربية مثل الثورة السورية، والعمل الخيري، وجرائم الشرف، خصوصا جريمة القتل التي راح ضحيتها زوجة... قتلها زوجها بعدما اكتشف خيانتها له مع كاتب معروف، بالإضافة إلى مسألة الحرية المفقودة ليس للمرأة فقط ولكن للأطفال والضعفاء.

في حين تضمنت الرواية أحاديث متفرقة عن الأدب:«أجمل أحاديثها كانت عن الأدب والشعر، أحاديث ممتعة ومغرية كانت تستمر لساعات لا يحس بمضيها أي منهما».

وتترصد المؤلفة حال بطلة الرواية بكثير من الوصف الموجز الذي يعطي فكرة مبسطة عن حياة زهرة: «لم تعرف زهرة كيف تشرح لصديقتها قرفها من حياتها ولا كيف تفسر لها أنها اختارت عادل بكامل حريتها منذ عشرين سنة، وأنها أعجبت بصفاته وخصاله عندما التقته، وأن تلك الصفات نفسها هي التي تكرهه بسببها الآن، كل صفاته كبرياؤه ثقته المفرطة في نفسه، دمه البارد، ملامحه، أحلامه، طموحه، تكرهها حتى رائحته».

وينصدم القارئ مما تحدثت به «زهرة»، والتي أخذت في هذه المسافة دور الراوي: «لا أدري أي هوس يسيطر علي ليجعلني أحكي لكم قصتي! أي عفريت يتلبسني لأفتح الجرح القاتل وأرشه بالملح، أي رغبة تتملكني لأخبركم بسر أنام كي أنساه وأستيقظ من دون أن أنساه، أعرف أنكم قرأتم كل ما سرده الراوي عني ولكن الحقيقة تقول: لا أحد يمكنه فتح صناديق أسرار الغير كاملة».

وتكشف: «قضيت نصف حياتي في بيت أبي ونصفه الثاني في بيت زوجي، لم يكن أي منهما حنونا علي أكثر من الآخر، إذ كلاهما كان ينضح بشاعة».

وتأتي النهاية التي تتماثل فيها «زهرة» في انطفاءة أبدية إثر انفجار رهيب، تتعرض له في رحلتها مع نفسها وحياتها، جاء مصرعها وفق منظومة ظالمة تتأزم فيها الحياة في أبشع صورها: «تهب علي رائحة دهن العود، تهدأ روحي، سحابة من عطر ترفعني، أشم رائحة عطر أمي، أعانقها، أتشمم رقبتها، لكن ثمة رائحة غريبة تتسلل خلسة إلى ثنايا روحي».

هكذا تدافعت الأحداث في سياقها المحير، وفي مضامينها التي تتوهج فيها الرؤى بأكبر قدر من التأمل، ومن ثم فقد بدت اللغة الروائية متجهة بقوة إلى انعكاسات متقاطعة، وغير قابلة لأن تجتمع في نقطة محددة، ومن ثم فإن المشاعر باتت غير مستقرة وقابلة للتغيير في كل فصول الرواية، كما أن الشأن السياسي المفعم بروح الإنسانية كان غالبا على الأحداث، وبالتالي جاءت المعالجة في أشكالها الموضوعية، القريبة من الإنسان.

في ما بدت الحوارات- القليلة- في الرواية متناسقة مع الجو العام للحبكة، ومتفهمة بشدة لدور الراوي في تحريك خيوط الأحداث، في اتجاهات وعرة وعصية.

و«رائحة التانغو»... هي الرواية الثانية للكاتبة دلع المفتي والكتاب الرابع لها بعد رواية «هن لست أنت»، والمجموعة القصصية «عورة»، ومجموعة المقالات «هل تسمحون لي».