حوار / عباس بيضون: نعم... الشعر يموت!

1 يناير 1970 06:35 م
|بيروت- من محمد دياب|

دائماً يبتسم، هو الفلاحي الذي خلع لهجته الريفية في أول مدينة اجتاحته، الجنوبي الذي حمل معه مدينة صور في قصيدة، والذي شكلت له المدن الأخرى من بيروت إلى باريس مروراً ببرلين، سيرة تكتب بالشعر، وببطء كمن يواجه حكماً لا مفر منه. بدأ حياته صغيراً، وفي الثالثة عشرة من عمره التحق بالحزب الشيوعي وكانت النتيجة أن نال صفعتين، قبل أن يعود مجدداً الى الماركسية عبر منظمة العمل الشيوعي التي ضمت في صفوفها آنذاك أهم الكتاب والمفكرين، كالدكتور فواز طرابلسي والروائي حسن داوود. هو يؤمن بأن الأفكار ستتراكم لتكون فاعلة يوماً ما.

لم نعد نتخيل نهار الجمعة من دون أن نقرأ مقالته الأسبوعية في الزميلة «السفير» التي يعمل فيها مسؤولاً عن الصفحة الثقافية. هو شاعر صاحب صور وحجرات ونقد الألم، وروائي الجديد حيث لديه رواية واحدة بعنوان «تحليل الدم». هو عباس بيضون، هكذا يحب أن نناديه بلا ألقاب. عن دور المثقف والشعر والكتابة كان هذا اللقاء:


•  كم من الممكن أن تكون كلمة المثقف أو الشاعر مؤثرة؟

- الشاعر بصورة خاصة لا يؤثر على الإطلاق. لا يمكن أن نتكلم عن تأثير الشاعر وبالتالي لا يمكن أن نتحدث عن تأثير سريع للمثقف. الأفكار في الواقع تحتاج إلى وقت طويل كي تثمر، لكن لا يمكن أن تقول ان الأفكار لا تنفع بشيء. الأفكار تبدو على المحك العملي قليلة الفاعلية، ونحن لا نستطيع إطلاقاً، بواسطة فكرة، أن نصل إلى نتائج عملية، خصوصاً حين تكون الفكرة جديدة وغير دارجة، فهذه الفكرة لا تفعل شيئاً مع العامة أو الجمهور، لأن الجمهور يتبع أفكاراً راسخة، وذات تقليد وماض، وأفكار جارية في الذاكرة العامة والذاكرة الجماعية، وتالياً الأفكار الجديدة لا تفعل شيئاً. ولكن الأفكار تحتاج إلى الوقت وتفعل أو يظهر تأثيرها في آخر الأمر، اذ حتى في حاضرنا نحن نتبع أفكارنا، إذا هذه الأفكار تقليدية أو موروثة أو أفكار جديدة لم يتم التفكير فيها من قبل فهي أفكار. على كل حال نحن بحاجة إلى أفكار كي نتحرك. نحن بحاجة إلى أفكار لنرسم حياتنا نحن بحاجة إلى أفكار لنتصرف وبالتالي حتى وجودنا اليومي يتعلق بأفكار وهذه الأفكار قد تكون تقليدية أو جديدة أو «غريزية» ولكنها أفكار وبالتالي الأفكار الجديدة تحتاج إلى وقت كي تنضج ووقت كي ترسخ ووقت كي تتحول تقليداً.

•  هل هذا ما دفعك الى القول بأن ما من شعر مجرد وإنما الشعر هو محاولة تجسيد؟

- لا. هذا أمر آخر له علاقة بالشعر، أنا من الأشخاص الذين يقولون بأن للشعر أفكاره كما للفلسفة أفكارها وكما للفكر أفكاره وللبحث أفكاره. ثمة دائماً أفكار. لا يمكن أن أتخيل شعراً بلا أفكار، ولكن فكرة الشعر، إذا جاز التعبير، هي العمود الفقري والسري أحياناً والخفي للنص، وبالتالي لا أستطيع تخيل قصيدة بلا فكرة. ولكن هذه الفكرة بالنسبة لي تظهر متقمصة ومجسدة.

•  ما دمنا انتقلنا إلى الشعر، متى ظهر الشاعر في عباس بيضون؟

- لم أبدأ شاعراً في الواقع. أولاً أبي كان كاتباً ولكنه لم يكن شاعراً، وتالياً لم يقدم لي نموذجاً للشاعر وإنما قدم لي نموذجاً للناثر، ولا يوجد في عائلتي شعراء. لم تكن جينات الشعر موجودة اذاً بالضرورة في داخلي. كما أن مراهقتي الأولى كانت موزعة على قراءات عدة، وتالياً على تطلعات عدة. في الوقت نفسه، كتبت مسرحاً أو ما يشبه المسرح، وكتبت قصصاً قصيرة، كذلك كتبت الشعر. كان ثمة ذاك الميل الخفي الى التنظير، الذي كان يجتمع إلى الفن والأدب. لم أكن حتى في نظر نفسي أديباً فحسب، كنت أرى نفسي هذا الخليط من الأديب والمفكر والقصاص والمسرحي. ثم كان الانتماء إلى العمل السياسي، ولو بدا هكذا بشكل متأخر، لأن البداية مع الحزب الشيوعي، كانت بداية معلقة. ولكن البداية الفعلية كانت في العشرينات من عمري، ولكن هذا الخيار السياسي، كان أيضاً نموذجاً لهذا التوزع، لأن الماركسية ومنظمة العمل الشيوعي مع بعضهما. الاثنان كانا يعطيان هذا الوهم بامتلاك المعرفة الشاملة، فالماركسية بما أنها تفسير لكل شيء، كانت تمنحنا هذا الوهم بأننا نعرف، أو بأننا نملك نظرية الاقتصاد ونظرية التاريخ، ونملك نظرية يرتد إليها كل شيء. ونستطيع بسهولة، إذا جاز التعبير، أن نوفق بين الماركسية وبين الشعر والسينما، وبينها وبين علم النفس، وبينها وبين العلم الخالص، يعني بينها وبين كل شيء. ثم ان منظمة العمل الشيوعي كانت متميزة بهذا التبحر النظري، ومع هذا التبحر النظري كان يزيد هذا الإحساس بمعرفة كل شيء. وبالتالي طالت فترة التردد والتوزع، حتى أثناء وجودي في منظمة العمل. انقطعت عن الكتابة ولم أعد إلى الكتابة إلا بعد سبع سنوات، وقررت أن أكون شاعراً. وهذا لا يعني أني لم أكن شاعرا من قبل، فقد كنت قد كتبت مطولا قصائد من كل نوع. قصائد عمودية وتفعيلة وقصائد نثرية. ومع خروجي من منظمة العمل الشيوعي، كان قراري أن أكون كاتباً.

حتى ذلك الحين لم أملك اسماً شخصياً خاصاً، إذا جاز التعبير، أمام نفسي لم أكن أملك وجوداً خاصاً. كنت أملك هذا الوجود المطابق بصورة دائمة ومستمرة لإرادة أكبر مني، ولست نادماً على الإطلاق على دخولي الماركسية، وانتمائي إلى الماركسية يشكل إلى الآن عنصراً اساسياً في تكويني، ولا أظن أني استطيع تخيل أنني سأكون الشخص نفسه من دون الانتماء إلى الماركسية.

الرؤية التي تمنحنا إياها الماركسية، حتى عندما نتركها، ولا نعود ماركسيين، كما أنا الآن، لن تكون هي نفسها إذا لم نمر بالماركسية، وحتى بعد خروجنا من الماركسية يبقى ديننا كبيراً لها، لأنها تنقلنا إلى هذا النوع من الجدل بين الواقع وبين الفكر. ومن دون الماركسية كان يمكن أن نبقى في عالم من الأفكار المجردة. كان يمكن، من دون الماركسية، أن نغرق في نرجسية بلا حدود، وأن نفقد هذه الأبعاد المتعددة في فكرتنا عن العالم. من دون ماركسية كان يمكن، كما يقول ماركيز، وهو الفيلسوف الفرنسي لا الروائي الكولومبي، أن نغرق في البعد الواحد، وبالتالي الماركسية بصورة مستمرة هي نوع من الوسيط بيننا وبين العالم.

وعندما نكف عن الماركسية، نبقى دائماً مع هذا الوسيط والذي يمنعنا من المطابقة مع العالم، ويمنعنا من أن نكون نحن محور العالم وأن نعيش في طوباوية خارج العالم.

•  المدن أخذت حيز من قصائدك يعني بيروت برلين باريس وصور؟

- هذا الأمر تم بالصدفة، وأنا إلى الآن لا أعرف كيف حدث. لقد كتبت قصيدة صور ولم يكن في نيتي أن أكتب عن المدينة. في الواقع كتبت قصيدة صور، ولم أكن واضحا في موضوع كتابتي.

المقطع الأول عن البحر، وهذا المقطع كأنما ولد من تلقائه، وكان يتدرج ويتسلسل من دون وعي مني. وفي الواقع كتبت قصيدة صور من دون قصد واضح، وجدتني أكتب عن مدينة ولم أنتبه إلى ذلك إلا في وسط الكتابة. لا أعرف كيف كتبت قصيدة صور ولم أكن مستعدا للكتابة عن المدينة، ولم أكن مستعدا لهذا النوع من السيرة الذاتية.

فقصيدة صور سيرة ذاتية، سيرة المكان الشخصي، وسيرة ما قبل الولادة. وفي الواقع بعد قصيدة صور، عندما كنت أشعر بالكتابة عن مدينة، كانت الكتابة تخونني ولم أنجح في ذلك. مثلاً حاولت أن أكتب عن عدد من المدن، طلبوا وصفها، وأذكر أنني جلست طويلا للكتابة عن أصيلة وهي مدينة في المغرب فلم أخرج إلا بسطرين وأذكر أني وددت في أكثر من مرة أن أكتب عن غرناطة والمدن الإسبانية ولم أنجح وبالتالي أنا لست رحالة في القصيدة وبالتالي لست شاعر مدن. فالمدن التي كتبت عنها قليلة نسبياً. ثمة قصيدة عن ليماسول غير معروفة كانت أقرب إلى السيرة الذاتية عمليا حتى قصيدة باريس هي سيرة. هذه القصائد لم تكن قصائد مدن بل كانت قصائد ضمير.

•  دعوت إلى تكسير البلاغة ونقد الفصاحة والتحول إلى لغة جديدة رغم أننا نلاحظ اللغة القوية والفصيحة في قصائدك...

- الركاكة في الواقع لم تكن دعوة الى الضعف اللغوي أولاً لأن الركاكة هي مجرد مصطلح معارض للفصاحة والفصاحة بالنسبة لي تعني مرادفاً للجزالة والجزالة إيقاع واحد للغة، غالباً ما يطغى على الصورة والمعنى وغالبا ما يحول الكلام ترجيعاً صوتياً، وبالتالي الفصاحة كانت بالنسبة لي هذه الأسبقية للإيقاع على الكلام وهذا نوع من طمس الإيقاع لتفاصيل الكلام وجسد الكلام وتحويل الكلام بالتالي إلى حداء متكرر وعندما تكلمت على الركاكة كان قصدي تماما الاعتراض على الفصاحة وخصوصاً أن هذا الكلام لم يكن مجرداً حيث أنه في ذلك الوقت كانت القصيدة متأثرة بالترجمة الأدونيسية لبيرس وبالأدونيسية نفسها هذه القصيدة التي كانت مسيطرة في ذلك الوقت كانت قصيدة استنفار للقاموس اللغوي وقصيدة تداع لغوي وسيولة لغوية وكانت نوعاً من لغة مستوية ومتساوية ذات انتشار عرضي من دون أي محورة وموضوع وبالتالي نقض الفصاحة كان نقضا لهذه اللغة المتعالية، لكني مازلت أقول رداً أيضاً على الفصاحة أن لغة الشعر هي أضعف لغة بل أبسط لغة وبالتالي هي لغة لا يمكن أن نتكلم بها وأن الشعر هو ادعاء اللغة الأولى، لغة النطق. نستطيع أن نتدخل في الكلام، لكن الشعر هو كلام لا نستطيع أن نتدخل فيه أو على الأقل لا نستطيع أن نتدخل فيه علانية. لا نستطيع أن نبرز تدخلنا فيه. هذا التدخل إن تم، لا بد من أن يتم بصمت وتكتم كامل وبالتالي فإن فكرة الشعر هو اللغة الأقوى هي فكرة تخريفية لأن الشعر واقعاً هو اللغة الأضعف واللغة الأكثر ثورية وبالتالي كان رأيي أن الشعر ليس صعباً بل هو بسيط. في الشعر لا نختار العبارة الأكثر تعقيداً، بل نختار أبسط عبارة ممكنة. عندما تقرأ كلاماً شعرياً فهذا الكلام هو كلام نهائي وكلام يشبه الثأر، ولأنه يشبه الحدث ويشبه الفعل ولأننا امام كلام بصيغة الحدث وصيغة الفعل، فهذا الكلام يعطي جسداً للفكرة، فهذا الكلام أيضا هو الكلام الأبسط.