أربعون المنفي

1 يناير 1970 10:52 م
كيف أنتَ الآن هناك؟

هل وجدتَ منطقاً لم تجده هنا أم أن الأمور تفسّر نفسها هناك ولا حاجة الى مترجِم او مفسِّر او محلِّل او محذِّر ولو كان قائداً علمائياً من رتبتك؟

هل وجدتَ مَن يفهم الآخر ام ان الجميع واحد ولا آخر هناك؟ هل عاتبوك ام مدحوك وأجلسوك في الصفوف التي رفض البشر ان تجلس فيها فابتعدتَ مفضلاً القلوب والعقول على الكراسي؟

لا أعرف حقيقة ماذا هناك، ولن أنتظر مكالمة هاتفية منك لتخبرني، فما هناك يحضر عند المغادرة، ووحده صاحب الجسد الذي دخل مسلك الفناء يلتمس الطريق بلا رفيق... لكنني أعرف أنك أبكرتَ الرحيل وكأنك يئستَ من هنا او شعرتَ بأنك قلتَ ما لديك.

أربعون يوماً على سفرك يا سيّدي هاني فحص، ونحن أهل المنطقة التي ظلّلتها عمامتك تحاصرنا الاربعينيات حسب حصار القوى السياسية لها. «أربعون» تلو أخرى. من نكبة الاربعينيات الى اربعين نكبة في اليوم. اربعون يوماً تركتَ فيها للصدى ان يعيد روحك الى العبارات المنسية وتركتَ فيها للمدى ان يعيد عباراتك الى الأرواح المنسية ... هذه الأرواح التي خطفَتْها قوى الأمر الواقع وحوّلت مقاماتها المتناثرة حجارةً تَرجُم بها كل خارج عن خط الولاية.

ما شعرتك يوماً تتحدث عن أرضك وناسك إلا وكأنك تتحدث عن منفى. كنتَ منفياً في وطنك رافضاً الغربة عنه. وكنت أسألك العودة من المنفى بالغياب، فتضحك وتقول ان «الغائب» نقل جزءاً كبيراً من الناس الى وطن آخر وأنك تفضّل الحضور في المنفى على الغياب في الوطن.

أربعون يوماً محت ثلاثين عاماً. بالصورة لا بالمعنى الحرفي. كان نعشك يسير من اول الكفن الى آخر الرمل وكأنه ممحاة تمسح كل ما بُذل من جهد ومال وترهيب لإلغاء صوتك او رفْع السواتر بينه وبين آذان الآخرين. وفي رهبة الغياب شعر حاملو النعش والسائرون خلفه بأنهم ليسوا أيتاماً وان حجمهم أكبر بكثير من عددهم ... كان صوت النحيب صوتهم بينما كان صوت المؤذن صوتك، وصوت المقرئ صوتك، وصوت وسائل الإعلام صوتك، وصوت الورد وحبات الأرز المتناثرة على الرؤوس صوتك. انقلبتْ الآية وصار التشويش صورة الآخر الذي تم «تكليفه» التشويش على صورتك، فاذا بك تودّع الجمع أكثر نقاءً وبهاءً وصفاءً بينما كلفة «التكليف» ترتفع قيمتها سلباً في رحاب الوطن والدين.

كيف أنتَ هناك يا سيّد هاني؟

لا داعي لنخبرك كيف نحن هنا، فالوطن أصبح «مياوماً» يعيش قوت بؤسه يوماً بيوم.

أعلم أنك تعلم، وزوايا الرؤية أصبحت لديك أكبر بكثير. ترى وأنتَ تحتسي الشاي وتكتب ما لم تكن تراه هنا. ترى مدى الأوطان والأديان ومدى المنافي على ضواحيها ... وتضحك كالعادة متسائلاً بينك وبين نفسك: هل كنتُ هناك؟

لم تكن هنا فحسب يا سيّد. كنتَ هنا... وهناك، ولذلك لم تشعر في رحاب موقعك الجديد بأيّ غربة. رفعتَ عمامتك عن رأسك فانكشف على راحة ضمير والتمعت عيناك برؤية ابتسامة أهل العمامة وهم يحضنونك بكل الرضا.

انتهى منفاك يا سيّد هاني... استمرّ منفانا!