قضية / حينما تساهم الرقابة في نشر الرداءة والتسطيح

المنع والمصادرة... دعاية مجانية لكتب ربما لا تستحق الطباعة

1 يناير 1970 03:38 م
في ظل المحاولات الدؤوبة، التي يقوم بها كتاب وأدباء متميزون، من أجل إعادة الاعتبار للكلمة، ومحاولة السيطرة على حالة العزوف الجماعي عن القراءة، نتابع بألم ما تقوم به الرقابة... قديما وحديثا في مجتمعاتنا العربية، من مصادرة ومنع، من دون النظر إلى التطورات التي لحقت بعالمنا، خصوصا في مجال النشر الإلكتروني وما يتوازى معه من فضاء يسع كل شيء... الرديء قبل الجيد، وبالتالي فإن أي تحرك تقوم به الرقابة لمصادرة أو منع منتج إبداعي بعينه هو دعاية مجانية له لا يجني ثمارها إلا صاحبه، وقتها لن يلتفت القارئ- العازف أساسها عن القراءة- إلى محتوى الإصدار الذي حركته الرقابة إلى الواجهة عن طريق المنع أو المصادرة.

والذي يجب الانتباه إليه أن بعض الذين يجنحون إلى إصدار كتبهم، وبعد جولات عديدة من الطباعة والنشر، ومن ثم الفشل في تأكد الوجود، تتفتق أذهانهم عن طريقة قديمة غير أنها ذات مردود جيد، مفادها إحداث صدمة أو حالة من الدهشة في كيان المجتمع، وذلك من خلال طرح رؤى وأفكار تتعارض مع قناعاته ومعتقداته، وبالتالي تقديمها للرقابة، وكل أمانيه أن يحظى عمله بالرفض أو المنع أو المصادرة... وحينما يحدث المأمول، وقتها سيجد من يتصدى لهذا المنع والتصعيد على أعلى مستويات المجتمع المدني، في الوقت الذي يتعذر على المتابعين قراءة هذا الإصدار والحكم على محتواه.

في هذه الحال... لن يلتفت أحد إلى المحتوى والمضمون بقدر الالتفات إلى الحدث... هذا الذي يمثله المنع والمصادرة، ومن ثم تتناقل الأيدي والأعين والمشاعر هذا المنتج الأدبي، برداءته وخلوه من المضامين، كي تكون المحصلة مزيدا من الشيوع والانتشار لصاحب هذا المنتج، والاحتفاء به على أساس أنه ضحية الرقابة والظلم، كما تتنافس المنظمات والاتحادات والملتقيات لاستضافته في فعالياتها... وتستمر الحال إلى أن نجده- حين غفلة منا- جالسا على طاولة المبدعين الكبار مبدعا ومنظرا ومشاركا في الحياة الثقافية.

وما نشهد الآن من ضعف في الأداء الأدبي إلا نتيجة لمثل هذه الاقتحامات، التي ينجع فيها هؤلاء المدعون، الذين لم تكن شهرتهم عن طريق الاجتهاد والتميز، بقدر ما هي شهرة زائفة ملفقة باهتة، ومن ثم سننتظر طويلا كي يكتشف المجتمع زيف من رضي به مبدعا ومنظرا.

فما دامت مطالبنا بإلغاء مفهوم الرقابة من الأساس، واعتبارها شيئا لا وجود له في مجتمعاتنا... وما دمنا غير قادرين على أن نترك للإبداع فضاء الحرية باتساعه واستيعابه لكل جيد ورديء، فلماذا لا نلجأ إلى وسيلة نتمكن من خلالها إحباط محاولات بعض الباحثين عن الشهرة، من خلال كتابات لا تستحق حتى القراءة أو الطباعة، وذلك من خلال طرح بدائل لمسألة المنع والمصادرة؟!

ولعل واحدة من هذه البدائل، إضافة عناصر نقدية محترفة موثوق فيها، ضمن أعضاء الرقابة، تخرج ببيان واضح المعالم، ليس فقط عن اسباب المنع... ولكن بإرفاق قراءة مقنعة لمحتوى المادة الأدبية سواء كانت جيدة أو رديئة، وذلك وفق شفافية تامة، ليقولوا لنا مثلا أن سبب المنع بسبب تخطي الكاتب الخطوط الحمراء، غير أن العمل في مضمونه جيد أو رديء، ومع ذلك سنجد من يتباكى على الحرية وينسى تماما مسألة الجودة، غير أن هناك من سيقابل المنتج الممنوع إن كان رديئا... بالرفض، وإن كان جيدة بإعادة التقييم والتفكير في مدى أهميته في بناء المجتمع.

وللرقابة على الكتب مفارقات غاية في الغرابة، لا يمكن تصديقها، هذه المفارقات سببها- على ما اظن- الخوف الداخلي الذي يتملك الرقيب من تمرير كتاب، ثم يجد أن به ما يراه البعض مثلا خدشا للحياة أو تعديا على الآخرين، وبالتالي يضع نفسه في موقف المقصر، وتبدأ معه المحاسبة، لذا فإن أي مفردة أو جملة أو مفهوم يتعذر عليه فهمه أو تأويله يجنح بسرعة إلى الإلغاء والمصادرة.

ولاختلاف أمزجة ودوافع ورؤى الأعضاء في الرقابة بعد كل تغيير ستجد أن كتابا كان متاحا للقراءة وحاصلا على ترخيص بالتداول، قد يمنع في طبعة تالية له، رغم أن محتوى الكتاب واحد.

فالرقابة تساهم بشكل ملحوظ في التشهير بالكتاب، هذا التشهير يجده البعض شهرة وانتشارا، لأن القارئ العربي بطبعه يميل إلى متابعة كل ما يخص التشهير، ومن ثم تبدأ محطات الشهرة في الظهور، والوضوح.

فمثلا أنتج نجيب محفوظ الروايات التي حظيت بالاهتمام والمتابعة، غير أن البعض يرى أن «أولاد حارتنا»، من أكثر الروايات رواجا وحضورا، لأن الرقابة تلمستها وتدافعت إلى مصادرتها، مع العلم بأن قيمتها الفنية أقل بكثير من بقية أعمال نجيب محفوظ، لدرجة أن البعض كان يرى أنه حصل على نوبل من خلالها، وهذا الكلام مغلوط، لأن محفوظ حصل على نوبل عن مجمل أعماله وليس من خلال عمل واحد مصادر.

حقيقة... الرقابة ربما تساهم- من غير أن تدري- في إفساد الحياة الأدبية، وإدخال من يبحث عن الشهرة والوجاهة، من دون أن تكون لديه المقومات الإبداعية المطلوبة.