قسم يؤيد التغيير بالسلم والعنف وآخر محافظ يخشى حدوثه بالقوة

بوادر انقسام في العالم العربي

1 يناير 1970 06:24 ص
• مجلس التعاون الخليجي يعتبر الناجي الأكبر من زلزال الانقسام الذي يشق صفوف العرب

• هناك احتمال بانقسام 5 دول عربية إلى 14 دولة مختلفة الانتماءات والمرجعيات

• دوافع الانقسام الداخلي في دول عربية سببها طائفي أو عرقي أو قبلي أو مصلحي

• عزمي بشارة تحدث عن انقسامات لدول عربية بعضها يرقص على وقع فضيحة والآخر يفجر نفسه في إطار طقوس دينية

• الجامعة العربية استمرت في التعامل مع الأزمات العربية بالمنظومة البروتوكولية القديمة

• اختلاف مواقف الدول من «حماس» جعلها تختلف حول غزو إسرائيل لغزة

• الدولة الصهيونية مستمرة في محاولة «تفتيت» الدول العربية بدعم مطالبات الحكم الذاتي لطوائف بعينها

• مكافحة إرهاب الجماعات المسلحة خلقت مناخاً للتعاون الأمني والسياسي بين الأنظمة العربية
بعد أكثر من 66 عاماً من ديبلوماسية المجاملات في ظل الجامعة العربية، يقترب العالم العربي من الانقسام فعليا إلى محورين أو تكتلين منفصلين. حيث أظهرت أزمات عربية واقليمية أخيرة لعل ابرزها الحرب على غزة والوضع في سورية والعراق والأزمة الليبية انقساما في تعاطي الديبلوماسية العربية مع هذه المشاكل السياسية. وبهذا الانقسام قد يتراجع تمثيل الزعماء في قمم الجامعة العربية مستقبلا. وقد تتغير كليا العلاقات العربية - العربية ونتجه إلى تسجيل أكبر شرخ يضرب الكيان العربي منذ الخمسينات أي منذ استقلال الدول العربية.

الانقسام العربي برز إلى العلن حيث تخلى سياسيون عرب عن بروتوكول المجاملات وأصبح كل منهم يتخندق في خندقه فمن يأتي معه فهو أخ وصديق ومن يختلف معه فهو في حلف آخر. وقد أثرت دوافع الانقسام الداخلي في دول عربية بسبب طائفي أو عرقي أو قبلي أو مصلحي أو سياسي وديني أو ايديولوجي، على علاقات هذه الدول بدول عربية أخرى ما قد يسهم مستقبلا في تعطل الشراكة العربية - العربية وجمود التنمية وتراجع التعاون العربي - العربي.

تقارير ودراسات كثيرة بحثت في بوادر انقسام الدول العربية على نفسها والمسببات كثيرة اليوم، الا ان اهم هذه التقارير تلك التي تحدثت عن الانقسام وتبعاته خصوصا فيما يتعلق بالاقتصادات العربية التي تعاني بعضها ازمات مالية شديدة في مقابل بطالة مرتفعة، ويهدد الانقسام اذا لم تتم معالجة اسبابه شعوبا عربية كثيرة تتطلع لجني ثمار تعزز التعاون العربي العربي.

نيويورك تايمز نشرت سابقا تقريرا بعنوان «تخيل إعادة خريطة الشرق الأوسط»، وأهم ما ذكرته الصحيفة «احتمال انقسام 5 دول عربية إلى 14 دولة جديدة نظرا لاختلاف الانتماءات والمرجعيات والتناحر القبلي والعرقي والطائفي التي تشهده دول بعينها»، كما ان «خريطة الشرق الأوسط الحديث، والمحور السياسي والاقتصادي في النظام الدولي، هي في حالة يرثى لها، وارتأت أن الحرب المدمرة في سورية هي نقطة التحول، وقد أصبح تنافس بين قبائل واعراق مختلفة واعتبرت من العواقب غير المقصودة للربيع العربي».

في أحد كتاباته يقول عزمي بشارة «ستنقسم الأمة العربية بين أولئك الذين يرقصون على وقع فضيحة وهزيمة، وأولئك الذين يفجرون أنفسهم في اطار طقوس دينية تصم الآذان».

ويقول الكاتب الاسرائيلي آشر سوسر وهو مدير وباحث بارز في مركز موشيه دايان للدراسات الشرق أوسطية والأفريقية في جامعة تل أبيب في كتاب نشره سابقا منذ 2003 بعنوان «تراجع العرب» ان عدد الدول العربية اثنتان وعشرون دولة إلا أن القواسم المشتركة بينها قليلة جدا ماعدا اللغة».

اقتصاديا، كشف مركز التجارة الدولية في آخر تقاريره عن مدى الشراكة التجارية بين الدول العربية على موقع «انتراسن» أن «جامعة الدول العربية لديها أحد أدنى مستويات التجارة البينية في العالم على الرغم من سهولة الدخول إلى الأسواق والتجانس الثقافي الكبير، فإمكانات التجارة موجودة ولكنها حتى الآن غير مستغلة، ويخلص تحليل مركز التجارة الدولية (ITC) انه «عن طريق إزالة العقبات المتبقية أمام التجارة، هناك إمكانية لزيادة التجارة الإجمالية للدول العربية الأعضاء في الجامعة بنسبة 10 في المئة وخلق نحو مليوني وظيفة على الأقل».

سياسيا، أصبحت الدول العربية منقسمة إلى قسمين : قسم ماضٍ في الانتقال الديموقراطي بقوة ارادة التغيير لدى الشعوب عن طريق العنف والسلم، وقسم من الدول المحافظة التي تخشى من التغيير بالقوة وتعتقد في التغيير على المدى الطويل. لا القسم الأول يقبل بمعايير السياسات التي أصبح ينتهجها القسم الثاني ولا القسم الثاني يتقبل قوة التغيير التي فرضها القسم الأول.

التغيير قوي جدا إلى حد أنه منذ اندلاع ثورات الربيع العربي تراجعت كل أشكال التعاون العربي الفعلي خصوصاً اقتصادياً، اما سياسياً فأصبحت الجامعة العربية شبه معطلة أو لا تعي النسق الجديد لمفهوم التغيير واستمرت في التعامل بالمنظومة القديمة البروتوكولية، لذلك لم تسهم في حل اي من النزاعات العربية المندلعة، ويلاحظ أن التمثيل العربي في السنوات الأخيرة في التجمعات الكبرى والقمم العربية تقلص بل أصبحت هناك دول بالاسم متغيبة أو بتمثيل أقل.

أزمات كثيرة يمر بها العالم العربي آخرها غزو إسرائيل لغزة ولم يجتمع لأجل ذلك كل الزعماء العرب بل اختلفت وجهات النظر حول طريقة التعاطي الجديدة مع القضية الفلسطنية خصوصا مع تحفظ بعض العرب على مواقف حركة حماس.

صحيفة «غارديان» ذكرت في تقرير لها ان «هناك انقساما بين العرب حول الحرب على غزة وخصوصا حول شروط الهدنة».

مركز الأبحاث العالمي «غلوبال ريسرش» كشف ان «الدولة الصهيونية تستمر في محاولة تقسيم الدول العربية وتفتيتها إلى دويلات صغيرة وذلك من خلال دعم انتشار مطالبات الانقسام والحكم الذاتي لطوائف بعينها مثل السنة والشيعة والأكراد في دول بالشرق الأوسط».

ونذكر أن القضية الفلسطينة والدفاع عنها كانت من أهم القضايا التي دفعت بالعرب إلى تأييد فكرة انشاء جامعة عربية وكما كانت القضية الفلسطينية تجمع العرب أصبحت اليوم تفرقهم خصوصا مع بروز أكثر من ممثل للشعب الفلسطيني وكذلك ينطبق المثال على بقية الشعوب العربية.

ربما لم يدرك الساسة العرب أن قوة التغيير التي حدثت زلزلت المنظومة القديمة لتعاملات الأنظمة العربية مع بعضها وتفاهماتها، فقد تكون الكثير من الاتفاقيات والتفاهمات بصدد المراجعات من طرف واحد، كما أن الساسة العرب قد يغفلون أو هم غير غافلين في الحقيقة عن مدى الانقسام في الاراء والتصريحات ازاء قضايا داخلية وخارجية تهم الوطن العربي.

إلى ذلك فإن التكتلات العربية بما فيها الجامعة العربية واتحاد المغرب العربي ومجلس التعاون الخليجي تشهد أكثر الفترات حساسية لإثبات قدرتها على استيعاب قوة التغيير ولعل مجلس التعاون الخليجي يعتبر الناجي الأكبر من زلزال الانقسام الذي يشق صفوف العرب، حيث ان دول الخليج طرحت حلا بديلا للتعاون وهو الاتحاد ما يبعد فكرة الانقسام.

وقد نشر موقع «اوبين ديموكراس» تقريرا علميا للدكتور فابيو ميرون ذكر فيه الباحث ان «تونس وبقية دول العالم العربي خصوصا التي شهدت ثورات الربيع العربي يشهدون انقساما حول طريقة الانتقال الديموقراطي وضرب مثلا في ذلك بين التجربة التونسية والتجربة المصرية».

حسب ورقة بحثية في ديسمبر 2012 بعنوان «بعد الربيع العربي: الأصولية الإسلامية، العلمانية والديموقراطية» للكتاب ايلين لوست وجمال سلطان وجاكوب وايشمان منشورة على موقع (jmw-consulting) فإن «العالم العربي انقسم إلى علمانيين واصوليين يريدون ممارسة السلطة عبر الانتقال الديموقراطي»، لكن هناك دولا عربية لا تقبل الأصوليين على رأس انظمة عربية في الحكم، لذلك فقد لا يمكن ان يفيد ان التعدد الايدولويجي لمرجعيات الأنظمة الحاكمة لأن البعض لا يقبل بفكر سياسي معين. لذلك فيحدث الانقسام.

إلى ذلك قد يكون فهم أسباب التحالفات العربية القديمة بحاجة إلى اعادة النظر. فأغلب الكيانات العربية التي تشكلت منذ بداية الثمانينات كانت أغلبها للم الشمل العربي والتعاون لصد عدو خارجي مثل اسرائيل او تحسبا لردع اي مطامع لايران في المنطقة، ولذلك تعزز التعاون إلى أن عرف تراجعا بسبب الانقسام حول حل أزمة احتلال نظام صدام الغاشم للكويت في 1990، وعلى اثر ذلك تشكل ما يمكن وصفه بالمحورين محور أيد صدام ومحور أيد الكويت.

الا ان هذه الصدمة القوية التي أثرت على مستوى التعاون العربي - العربي اختفت مع بداية الألفية خصوصا بعد هجمات 11 سبتمبر، حيث برز إطار تعاون قوي عربي - عربي بدعم أميركي لضرورة تعاون الأنظمة العربية لمكافحة إرهاب الجماعات المسلحة، وقد خلق هذا الظرف الجديد مناخا للتعاون الأمني وحتى السياسي بين الأنظمة العربية التي اجتمعت على مواجهة خطر عدو جديد وهو الإرهاب.

لكن في 2014 تغيرت كلياً كل الموزانات والقوى التقليدية في السياسة العربية، فمن كان مغيبا أمس أصبح له صوت اليوم ومن كان مظلوما أمس أصبح يطالب بحقه اليوم، وأصبحت قوة التغيير مثل العدوى التي تنتشر بين الطوائف والأقليات والمثقففين والمتعلمين والعاطلين وفئات عديدة من المجتمع كانت صامتة لسنوات طوال، لكن الوضع تغير اليوم ولا يمكن الرجوع إلى الوراء، وكل عناصر اللعبة السياسية في الدول العربية تغيرت أيضا، فما كان يقرب الأنظمة العربية لم يعد يقربها اليوم خصوصا، وحتى التعاون لأجل محاربة الإرهاب لم يعد كافيا لتقريب السياسات العربية لأنه بكل بساطة أصبح هناك اكثر من تفسير للإرهاب تتبناه الدول العربية. فتعريف الإرهاب يحتمل أكثر من وصف، عند تعريف بعض الدول لا يمكن وصف ما يقوم به على سبيل المثال ثوار سورية ضد نظام بشار الأسد بالإرهاب، لكن يوصف بالإرهاب ما يقوم به ثوار العشائر ضد نظام الحكم العراقي عند مفهوم بعض الدول الأخرى.

على موقع مشروع الشرق الأوسط للأبحاث والإعلام «م ر ي ب» ذكر الكاتب كيرتس رايان في مقال له بعنوان «الحرب العربية الباردة الجديدة والصراع في سورية» ان «هناك حرباً باردة بين دول عربية لاختلاف سياساتها تجاه قضية سورية وان الأزمة في سورية كشفت مدى الخلاف بين الأنظمة العربية التي انقسمت سابقا في مرحلة 1950 إلى 1960 بين محورين هما محور القوميين العرب الثوريين والذي كان تمثلهم مصر وحلفاؤها العرب وبين محور المحافظين.

وقد واجه العالم العربي مرحلة الانقسام في فترة الخمسينات التي سجلت حربا باردة بين «القوى العربية»، وكان سبب الحرب الباردة العربية في الخمسينات نفسه اليوم وهو التغيير الذي ارادته انظمته ورفضته انظمة أخرى إلى ان بلغت الدول العربية بعد ذلك مرحلة التحالفات البينية أكثر منها من التحالفات الاقليمية الكبرى، فظهرت في مرحلة لاحقة التكتلات بين دول عربية كانت أكثر فاعلية من الجامعة العربية في كثير من الأحوال.

ولعل أسباب التعاون والتقارب العربي التي كانت فعلا تقرب الأنظمة لبعضها زالت أو هي بصدد الزوال، فما كان يجتمع ضده العرب أمس كالتعاون لأجل صد عدوان خارجي؛ أصبح بكل بساطة حجة واهية، إذ ان خلو العرب امس من أي انقسامات داخلية بسبب اضعاف المعارضة كانت العامل المساعد الأكبر لتقارب الأنظمة وتشابهها، ولكن اليوم أصبح للعالم العربي قضايا داخلية ولاعبون كثر، واختلفت الأراء كما حدثت انقسامات بسبب صحوة الطوائف وانتشار السلاح وتغير أنظمة قديمة بالقوة واشتعال فتيل الحروب الأهلية ودخول عدد من الدول العربية حالة الانتحار الاقتصادي ما زاد وتيرة الغضب الشعبي على الأنظمة.

كل هذه الظروف يضاف إليها دور بعض وسائل الاعلام ساهمت في تأجيج الناس فاقمت حدة الانقسام إلى حد خروج السياسيين عن بروتكول الديبلوماسية.