الهجر الجميل... لا يعرف الحقد والضغن ولا أذى فيه

1 يناير 1970 06:55 ص
• الهجر الجميل في زمن المحن والفتن أن يهجر المسلم الخوض فيما يفسد ولا يصلح ويفرّق ولا يجمع وأن يسعى للإصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيلا

• من يهجر أخاه المسلم لغرض من أغراض الدنيا يعرض نفسه للوقوع في الذنب والمعصية ويضع نفسه في مناهي الرسول صلى الله عليه وسلم

• هجر أهل البدع والأهواء مطلوب على مر الأوقات ما لم تظهر منهم التوبة والرجوع إلى الحق فمن وقَّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الدين
قال الله تعالى (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) (المزمل:10)   أُمر «النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية المباركة بالصبر ـ الذي منه كظم الغيظ ـ على ما يسمعه من الاَقوال البذيئة التي لا تليق ومقام النبوة الشامخ، صبراً لا عتاب فيه على أحد، ولا اعتزاز بالشخصية، أو دفاع عن الذات، بل تركهم إلى الله سبحانه، مع الهجر الجميل الذي لا يترك في نفوسهم شيئاً من وخز الضمير ما داموا لم يقابلوا بالمثل، بل بالهجر الجميل الذي لم يترك في نفوسهم اشمئزازاً من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يزرع فيهم ما يحول بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم مستقبلاً فلا يُقبلوا عليه ولا يسمعوا هديه، بل كان هجراً جميلاً لم يقطع خيوط المودة ولم يهدم جسور التواصل التي تمر من خلالها رسالة السماء التي تنشد لأولئك التكامل وسعادة الدارين.

والملاحظ في هذه الآية المباركة أن الله سبحانه استخدم لفظة الهجر ولم يستخدم مكانها لفظة الترك، ولعل الاَمر يعود إلى أن الترك يعني التخلي تماماً عنهم، بينما الهجر يحمل معه معنى امكانية الرجوع إليهم والتبليغ فيهم مرة ثانية، ولأجل هذه الاحتمالية يلزم أن يكون الهجر جميلاً؛ لاَنهم في حاجة إلى المعاودة والنصح والارشاد الذي لا يتحقق مع تواصل الهجر المستمر بلا انقطاع. ومن هنا يعلم أنّ رحمة الله عزَّ وجل لا يمكن تصور حدودها، فهي شملت حتى من يسيء إلى مقام الرسل والانبياء، أملاً أن يصلُحوا في مستقبل أيامهم ويعودوا إلى حضيرة الاِسلام لينهلوا من آدابه ويتخلقوا بمكارم أخلاقه.

ولا يخفى ما في ذلك من عبرة عظيمة، وموعظة جليلة، إذ يمكن للمسلم أن يستثمر الصبر على الاذى والهجر الجميل ؛ ليحصد ما يحمد عقباه.

هذا الأمر الرباني نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة..!في بدايات الدعوة والبلاغ..!

والذي يدعو للتعجب في هذا الأمر أنه لم يكن أمراً بعد ما تحققت الدعوة في الناس، وصار لها أعوان وحملة يبلغونها..!إنما كان أمراً في وقت الدعوة أشد ما تحتاج أن تنتشر وتضرب أوتارها في الواقع الجاهلي.. فهل يعني هذا الأمر من الله جل وتعالى لإمام الدعوة وقائدها النبي الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أن يوقف دعوته وينفرد بخاصة نفسه ومن معه، ويهجر الكافرين فلا يدعوهم في هذا الظرف وهذا الحال؟!! حين نتأمل هذه الآية ( واهجرهم هجرا جميلا ) نجد أن هذا الأمر قد جسّد للداعية وبيّن له الموقف الرباني من قضيتين : الأولى : موقف الداعية من المجتمع الذي يعيش فيه. الثانية : موقف الداعي من المدعوين بشتى أصنافهم. و من هاتين القضيتين نقف الوقفات التالية: الوقفة الأولى : حتى يكون الهجر جميلا سئل شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى عن الهجر الجميل؟! فقال :... الهجر الجميل : هجر بلا أذى.! والإمام ابن سعدي رحمه الله له وقفة لطيفة عند هذه الآية حيث قال : الهجر الجميل : هو الهجر حيث اقتضت المصلحة. الهجر الذي لا أذية فيه، بل يعاملهم بالهجر والإعراض عن أقوالهم التي تؤذيه، وأمره بجدالهم بالتي هي أحسن.. وهنا أفادنا كلام الإمامين ثلاثة معان مهمة في الهجر الجميل : المعنى الأول : أن الهجر يكون حيث اقتضت المصلحة. المعنى الثاني : أن الهجر الجميل هجر لا أذى فيه. المعنى الثالث : أن من الهجر الجميل هجر الإعراض عن أقوال وأفعال المكذبين مع الاستمرار في دعوتهم. ثلاثة معاني مهمة ينبغي على الداعية إلى الله أن يراعي هذه الوصاف حتى يكون الهجر جميلاً. هذه المعاني جعلت من هذا التوجيه سموّاً في المواجهة مع المجتمع أو مع المدعوين. فهو هجر جميل لا لجرح العواطف والمشاعر والتلاعب بها. هجر جميل لا تخفف فيه من أعباء الدعوة وتبعاتها ومشاقها.. هجر جميل لا يقطع بالداعية المجاهد عن العمل في أمل..! إنه هجر للصناعة لا للإضاعة..! والله تعالى يريد من الدعاة وحملة المبادئ أن تسمو مواقفهم لتتعدى ذواتهم إلى مواقف حاسمة في سبيل الدعوة ومن أجلها. ويلبسون هذا الهجر لباس التقوى..! ترى كم لاقى نبي الهدى ورحمة الله المهداة محمد بن عبد الله من الأذى والنكران حتى تنزلت عليه هذه الآية!! وحين تنزّلت تُراه ترك دعوتهم ونصحهم..؟!

هجر في ذات الله

تأمل في موقفه صلى الله عليه وسلم من كعب بن مالك وصحبه يوم تخلفوا عن غزوة تبوك، موقفه مع نفر من صحابته الذين بايعوه.. الذين فدوه بأموالهم وذراريهم وانفسهم.. أصحابه الذين هم خير خلق الله بعد الأنبياء.. نجد كيف تجسّد فيه موقف المربي الحريص الحاني على صحبه ومدعويه حتى وإن بدر منهم ما يُذم ويعاب. لقد كان هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام للذين خلفوا هجراً جميلا لا أذية فيه ولا تشفي، إنما هجر العتاب الذي يزيد المحبة ويحرص على بقائها.. إن لحظة التوبة والعفو لتجسّد سمو هذا الهجر الجميل، وشفافية هذا الأدب النبوي في لعلاج. تأمل فرحة الصحابة الكرام واستبشار رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بنزول التوبة عليهم. حتى إن أحد الصحابة لم يتمالك من شدة الفرح إلا أن قام من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقبل كعباً ويعتنقه!

وفي مقابل هذا الهجر الجميل لهؤلاء الثلاثة نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن هذا تصرّفه مع المنافقين الذين اعتذروا له عن تخلفهم..! مما يدلنا على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن ليهجر الناس جزافاً، بل كان عن حكمة ومصلحة. هجر يورّث العمل الهجر الجميل هجر يحمي نفس الداعية من الانخراط في براثن المنكر والفحشاء.. فهو يرى المنكر ولا يعايشه ولا هو بمعرض عنه إعراضاً بلا توجيه... بل هجرا جميلا يحمي النفس من الضعف ويُعلي الهمّة للإنكار، والعمل. من الدعاة من يترك العمل الدعوى،والأنشطة والبرامج الدعوية لمشاغل أشغلته ومكاسب ألهته، ومتاعب أرقت ليله ونهاره ؛ فيتخفف من أعباء دعوته بحجة ( الهجر الجميل ) وأن المجتمع أصبح مجتمع فتنة!! وأن هذا هو زمن الهجر والعزلة.!! وهم بذلك إنما يبررون تخاذلهم عن أن يقوموا بدعوة الله حق القيام. ولقد اخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن ( المسلم إذا كان مخالطا الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ) فبيّن صلى الله عليه وسلم أن واجب الدعاة إلى الله أن يخالطوا الناس.. ليست هي مخالطة التعايش والموافقة وإنما مخالطة علامتها الصبر! وما هو داعي الصبر؟! إنه العمل والدعوة والنصيحة. إذن هي مخالطة لا تعايش فيها مع المنكر والباطل إنما هي معايشة للبذل والنصح والتضحية والتغيير، وهنا تكمن الخيرية ( يخالط الناس - كل الناس بشتى أصنافهم - ويصبر على أذاهم )، أمّا ذلك المسلم الذي رضي أن يكون صلاحه على خاصة نفسه فهجر الناس وتركهم لم ينل من هذه الخيرية ما ناله الأول. لا لأنه هجر الناس والمجتمع فحسب، وإنما لأنه هجر الناس والمجتمع لخلل في خاصة نفسه وهو أنه لا يصبر على الأذى! وكيف يكون هجراً جميلاً؟! لنترك لابن مسعود رضي الله عنه يصف لنا هذا الهجر الجميل.. حيث يقول : ( خالطوا الناس وزايلوهم وصافحوهم ودينكم لا تُكلموه )- لا تكلموه بمعنى لا تجرحوه - يا سبحان الله.. هذه تجربة الخبير...خالطوهم وصافحوهم ومع هذا زايلوهم ( المزايلة هي البراءة القلبية. ) حتى لا تجرحوا دينكم!! وهنا لابد من التنبيه على أنه ليس من حق اي أحد أن يحكم بفساد الزمان وأهله، فقد حذّر صلى الله عليه وسلم من ذلك بقوله ( من قال هلك الناس فهو أهلكهم )!

الهجر في زمن المحن

إن الهجر الجميل في زمن المحن والفتن أن يهجر المسلم الخوض فيما يفسد ولا يصلح، ويفرّق ولا يجمع، وأن يسعى جهده أن يصلح من أمره وأمر من حوله ما استطاع إلى ذلك سبيلا.. بالبيان والحجة والبرهان والحكمة والموعظة الحسنة! - من الهجر الجميل زمن الفتن والمحن والابتلاء أن يعرض الداعية إلى الله عن أقوال المتخرصين البطّالين إعراضاً لا يتركهم في غيّهم وفسادهم بل هو إعراض يورّث القلب ثباتاً من أن يلتفت إلى ما يشغله عن هدفه وغايته. وانظر لموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حين حلّت بالمسلمين الهزيمة، واختلط عليهم الأمر وكثر الهرج والمرج، في هذه الحالة يتنحّى رسول الله صلى الله عليه وسلم جانباً هو وبعض الصحابة... وفي هذه الأثناء يصيح أبا سفيان بأعلى صوته شامتاً : أفيكم محمد؟ أفيكم أبو بكر؟ أفيكم عمر؟! ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجيب ولا يأمر أحداً من صحابته أن يجيب! ثم لمّا قال :أُعلُ هبل..! هنا كان لابد للموقف أن يتغير لأنه لم يعد موقفاً شخصياً، بل أصبح موقف مبدأ وعقيدة فصار لابد من الصدع حتى ولو كان الزمن زمن فتنة ومحنة! فقال : صلى الله عليه وسلم : ألا تجيبوه؟! قالوا : وبم نجيبه يا رسول الله؟ قال : قولوا الله أعلى وأجل! فقال أبو سفيان : يوم بيوم بدر! فقال : قولوا : لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار! إنه حين يُتعرض للمبادئ الراسخات فهنا لا يسوغ السكوت ولا تسوغ المداراة ولا المداهنة بل لا بد من الصدع والبيان ؛ أمّأ حين يكون التعرّض للأشخاص والذوات فهنا يتسع الأمر في الإعراض والتغاضي والترك تحقيقاً لمصلحة أعظم من مصلحة الذات والشخصية! إننا في هذا الزمن بأمسّ حاجة إلى هذا الداعية الواعي الذي يعرف كيف يقيس الأمور بنظر الشرع لا بنظر لا يتجاوز أرنبة الأنف! والمصالح الشخصية.. يؤثر راحته وأُنسه في الحياة بلذائذها إلى التعب والموت في سبيل كلمة الحق. وفي زمن الفتن لا يسوغ به أن يهجر الناس ويتركهم يموجون.. بل يهجر فعالهم من أن تمسّه أو تصيبه بدخنها، ويعمل على إشاعة الحق جنباً إلى الهجر الجميل! الوقفة الثانية : الهجر الجميل وانتصار الأبد! قد يشعر الداعية إلى الله جل وتعالى أن موقف الهجر موقفا انهزامياً.. هذا الشعور قد يجعله في احيان يتهور تهوراً يجني فيه على الدعوة وأهلها..! ولكن حين نتأمل تعقيب الآيات بعد الأمر بالهجر الجميل نجد أن ما يعقبها من الآيات فيها : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) (المزمل:11) وهذا سر الانتصار.. بل هو الانتصار الحقيقي. الانتصار الحقيقي أن ينتصر لك الله جل في علاه.. ومن الذي ينتصر له الله فلا ينتصر؟! ومن هذا الحقير الذي يريد أن يحجب نصر الله أو لا يؤمن به؟! إنك أيها الداعي إلى الله حين تحتّم عليك المصلحة أن تهجر من حولك هجرا جميلاً فإن هذا لا يعني ضعفك أو انهزامك.. - وإن كانت النفس جُبلت على حب الانتصار وخصوصا وهي تعتقد صحة ما هي عليه - بل موقفك هذا الذي فرضته مصلحة الدعوة إنما يصنع انتصار الدعوة وانتصارك تبعاً لها فلا تيأس أو تتهور وتظن أن النصر من عندك..

هجر المسلم... بين المنع والإجازة



لقد أصبح التدابر والهجران آفة من الآفات المنتشرة في هذه الآونة لأسباب تختلف من شخص لآخر، فهذا يقاطع أخاه ويهجره لاختلاف في الرأي، وآخر يقاطعه بسبب معصية وقع فيها، وثالث يهجره لأنه يراه مبتدعاً، وغير ذلك من الأمور التي يتخذها البعض مطية لهجره وتدابره مع إخوانه، والغريب أن جميعهم يلبس هجرانه رداء الدين، وإن سأله أحد عن دليل يعضد موقفه تراه يتحدث عن هجران النبي صلى الله عليه وسلم للثلاثة الذين خلفوا، وهجر المرأة الناشز في الفراش وحديث كثير من العلماء عن هجر أصحاب البدع؛ وغير ذلك من الاستدلالات التي توضع في غير موضعها.

والحق أن الأصل في التهاجر هو المنع لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) وهو حديث متفق عليه.

فمن يهجر أخاه المسلم لغرض من أغراض الدنيا؛ خصومة أو تعالياً أو غير ذلك يعرض نفسه للوقوع في الذنب والمعصية ويضع نفسه في ما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومع شدة الزجر في هذا الأمر؛ أجازها الشارع في ظروف معينة، وبضوابط تضبطها لتحصيل المصلحة ونفي المفسدة؛ فقد أجاز الشارع هجر المرأة في فراش لزوجية اذا فشلت جهود الزوج في تقويمها بالوعظ والارشاد، وهو هنا ليس مقاطعة وهجراناً تاماً وإنما الهجران يكون في الفراش فقط، وقد أوضحته الآية الكريمة: (.... فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن....).

أما هجر أصحاب المعاصي والبدع والذي قاسه البعض على هجر الثلاثة المخلفين؛ فليس على إطلاقه؛ إذ ليس المقصود منه التعالي عليهم، وإنما هو أحد أمرين؛ إما محاولة التأثير عليهم ليرجعوا عن مخالفتهم وإما تحذير الناس من مخالطتهم، إما الاثنين معاً، لئلا يقعوا في ما وقعوا فيه. فإن انتفت هذه المصالح لسبب أو لآخر عاد الأمر الى أصل الحرمة.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت في ذلك مصلحة راجحة بحيث يفضي الى ضعف الشر وخفيته، كان مشروعاً. وان كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر.

ثم يضيف شيخ الإسلام: وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة والمهادنة تارة وأخذ الجزية تارة، وكل ذلك بحسب الأحوال والمصالح.

وعليه فنستطيع ان نوجز شروطاً لهذا الهجر... أهمها:

1 - أن تكون النية فيه تحقيق مصلحة شرعية لا حظ للنفس فيها.

2 - أن يغلب على الظن تحقيق تلك المصلحة بالهجر من حيث زجر المهجور أو تحذير الناس منه.

3 - أن يكون الهجر بالقدر الذي يحقق تلك المصلحة ثم يرتفع.

4 - أن يخلو الهجر من التثريب أو التعيير وإنما الهجر الجميل الذي لا لجاجة فيه.

5 - أن يكون آخر الدواء فإن كان في الوصل والوعظ سبيلاً لتحقيق المصلحة لم يجز تحقيقها بالهجر.

والخلاصة انه ينبغي أن يعرف المسلم ان هجر الأخ المسلم حرام وان اللجوء إليه يكون للضرورة الشرعية التي تبيح الحرام وبالقدر الذي يحقق المصلحة وبالصورة التي تحقق أقل الضرر وانه يرتفع بمجرد تحقق تلك المصلحة أو الشعور بأن الهجر لن يحققها لأن الأصل في علاقة المسلمين هو الحب والتواصل.

الهجر والهجرة والهجران



المعنى اللغوي للهجرة والهجر والهجران: هو ضد الوصل وهو مفارقة الإنسان غيره إما بالبدن أو باللسان أو بالقلب والأصل فيه الترك قولاً كان أو فعلاً وقوله تعالى: (واهجرهم هجراً جميلاً) يحتمل المفارقة بالبدن واللسان والقلب ومدعو إلى أن يتحرى أي الثلاثة إن أمكنه مع تحري المجاملة وأما قوله تعالى: (والرجز فاهجر) فحثٌ على المفارقة بالوجوه كلها. والهجر الجميل هو الاعتزال الحسن وهو الذي يقتصر على حقيقته ولا أذى منه ولا جزع فيه وقوله (واهجرني مليا) أي اعتزلني ما دمت حياً صحيحاً ولا تكلمني.

الخاتمة



هذه ثلاثة سلوكيات أشار إليها القرآن الكريم ووصفها بالجمال وكان يربي فيها النبي الكريم في زمن يشتد عليه فيه البلاء... فتتنزل عليه هذه التوجيهات الربانية التي تخالط شفافية النفس فتسمو بها من أن تعيش حياة أرضية لتسمو إلى روعة السماء وطهر السحاب. وحين نتأمل هذه التوجيهات: (الصبر الجميل) (الصفح الجميل) (الهجر الجميل).

نجد أنها منظومة عقد لا ينفرط جوهره.

الصبر الجميل... صبرا لا جزع فيه ولا تسخط... صبر يشع بروح الإيمان بوعد الله والثقة به... صبر يبعث الأمل مع العمل... صبر الثبات.

ثم بعد الصبر صفحاً جميلاً لا أذية فيه أو تشمّت أو شعور بالكبر وازدراء الآخرين.

صفح يجمع القلوب... صفح جميل يرشّد الخطأ ويعزز الصواب.

وبعد الصفح هجراً... هجر جميل... لا يعرف الحقد والضغن! هجر جميل... يزيد الحب حبا... والوصل وصلاً! هجر جميل... يؤنس القلب ويزيد العمل.